رواية "قهوة حبشي".. ممر لعابري القرية ومهمشيها
الرواية تبدأ بسيرة القهوة التي تتبدل لافتتها لتحمل اسم معلم جديد وينسج أهل القرية حولها الحكايات ومزيد من الذكريات لكنهم يفتقدون "ضاحي"
يطرق الكاتب المصري كمال رُحيم من جديد أبواب القرى بعوالمها وتقاليدها الراسخة، في روايته الأحدث "قهوة حبشي" التي صدرت أخيرا عن دار "العين للنشر" بالقاهرة.
تقع الرواية في 197 صفحة، وجعل الكاتب للراوي صوتا ذا شجون يتحاكى بتاريخ المعلم "حبشي" وقهوته، كعمود رئيسي تتشابك حولها حكايات القرية: "كانت القهوة ملقفا لكل هذا وأشبه بالتكئة أو المرسى لمن يأتي أو يذهب، وكعادة أهل الريف كان الكل يُطلق لسانه ويثرثر فيما يخصه أو لا يخصه".
يتقاسم بطولة الرواية "حبشي" صاحب القهوة، و"ضاحي" المساعد الذي يعمل بالقهوة، وتُحيطه محبة القرية، لا سيما مهمشوها من أهل البلد، فهو من يبادر لتقديم العزاء وزيارات المقابر، ومعروف بهيئته الفقيرة، وتأثره اللافت حد البكاء مع تلاوة المشايخ للقرآن الكريم بها، كما يشارك في نقل أثاث الفتيات الفقيرات من أهل القرية.
يقول عنه الراوي: "هذه هي أحواله منذ أن رأيناه لا علاقة له بفرح أو سرور، بل ويتحاشى الأماكن التي تعقد فيها، غير أن للضرورة أحكاما، فقد كانوا يستدعونه كلما جاء جهاز بنت من البنات، البنات الغلابة اللائي يأتي جهازهن على عربات الكارو أو فوق الجِمال، وليس بنات الأكابر اللائي يفرشن بيوتهن من مصر أو دمياط"، وبهذه الصورة الذهنية يتعامل أهل القرية مع "ضاحي"؛ رجل فقير ونبيل.
يتوقف أستاذ النقد العربي الدكتور محمد علي سلامة في كلمته عن الرواية عند انحيازها لثيمة التهميش ويقول: "يغوص كمال رحيم في أعماق الريف، ينبش في أحراشه، ويشرح دواخل الشخصيات تشريحا روائيا، يتعامل مع شخصياته بكل جوارحها، مظهرها الخارجي، باطنها الداخلي، تقاليد القرية في المصائب والبلايا التي تحل بها، وقد أجاد في تناول الشخصيات المسحوقة والمهمشة الذين ينتمون إلى الطبقة الأدنى".
يكشف السرد عن ملامح أعمق لشخصية حبشي صاحب المقهى، ما بين تجبر بحكم ملكيته للقهوة المركزية بالقرية، وانسحاق أمام فواجعه الشخصية، التي جعلته ينقطع عن القهوة تمامًا ليواريه الصمت والخيبة.
يقف ضاحي خلال أزمة المعلم حبشي في صفه وعائلته كابن لم يلده، ويجعل المؤلف من نكبة "حبشي" وسند "ضاحي" مفتاحا للغوص في حشايا تقاليد الريف، وجنوحها للقسوة أحيانا تجاه أهلها، بما في ذلك من أحكام تشكيكية، وخوض في الأعراض، وجلد للمخطئين، كعقاب مجتمعي جماعي.
لعبت الأغاني في الرواية دورا في تحريك السرد،وعكس انفعالات أبطالها، فتقاطع أبطالها مع مقطع أغنية لعبدالمطلب، أو أسمهان.
يقول الراوي: "كنت أتلكأ عندما أسمع صوت الشيخ محمد صديق المنشاوي وأتخيل وأنا في هذه السن أن دموعه على وشك أن تنهال على خديه وهو يتلو، كما كان يشجيني صوت أسمهان خصوصا عندما تغني:
أنا اللي أستاهل كل اللي يجرالي
الغالي بعته رخيص ولا أحسبوش غالي..
يضيف: "لم أكن أعاني في هذا الوقت أو في دنياي أمرا يدعوني للندم، لكنه الصوت المتألم واللحن الحزين، إذ كانا يقبضان على قلبي ولا أستطيع التحرك من مكاني حتى تفرغ أسمهان".
تبدأ الرواية بسيرة القهوة وإلى الذاكرة تعود، تتبدل لافتتها لتحمل اسم قهوة معلم جديد، ينسج أهل القرية حولها الحكايات ومزيدا من الذكريات، ولكنهم يفتقدون الشاي الذي كان يصنعه "ضاحي"، الذي رحل عنهم تاركا ذكراه الطيبة.
وكانت رواية كمال رحيم السابقة "أيام لا تنسى" تدور كذلك في ريف مصر، في أحداث تقع في أعقاب ثورة يوليو/تموز 1952، وجعل الراوي بها حفيد أحد عُمد القرية، ومشاهداته في عالم الريف المليء بالتناقضات من وجهة نظره.
الكاتب المصري كمال رحيم، مواليد 1947، وله ثلاثية مهمة كتبها عن ذكريات اليهود المصريين في بدايات القرن الـ20، ونالت أجزاء الثلاثية حظوظها من الترجمة؛ الأولى حملت اسم "قلوب منهكة - يوميات يهودي مسلم"، صدرت عام 2005، وترجمت إلى الإنجليزية والألمانية، والجزء الثاني بعنوان "أيام الشتات"، والثالث "أيام العودة" وتمت ترجمتهما للإنجليزية، وحصل الجزء الأول على جائزة الدولة التشجيعية في مصر.
aXA6IDE4LjIyNi4yMjIuMTMyIA== جزيرة ام اند امز