الرؤية الإسلامية للعالم، أنه مكون من شعوب وقبائل، مختلفة ألوانها وألسنتها وعقائدها وطبائعها، وأن الخالق لهذا الكون واحد.
بدأت فكرة الهجرة من (دار الكُفر) في القرنين الأخيرين وبشكل عملي، في شبه القارة الهندية، والتي كانت خاضعة منذ القرن الخامس عشر، لحكم سلاطين المغول المسلمين.
انتشرت أفكار وفتاوى «الجهاد» و«الهجرة»، في بلاد إسلامية أخرى، وبخاصة في آسيا الوسطى والقوقاز والبوسنة وجاوة وسومطرة، كما وصلت إلى الجزائر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وإلى السودان في نهاية القرن نفسه، وفي ليبيا في مطلع القرن العشرين
وقد انتشرت هذه الفكرة، حينما استشعر مسلمو الهند، في بدايات القرن التاسع عشر، أن سلاطين المغول أصبحوا خاضعين للسطوة العسكرية والتجارية والسياسية البريطانية، وبدأت تنشب تمردات شعبية عديدة، كثيراً ما انتهت إلى انتكاسات، لكن أسوأ هذه الهزائم، كانت في عام ١٨٥٧، حينما تمرد مسلمون هنود، وجرت إبادة هائلة للمسلمين، وعلى أثرها تم إلغاء السلطنة المغولية المسلمة.
وعلى أثر هذه المذابح، تكاثرت الفتاوى بالهجرة من الهند (دار الكفر) إلى أفغانستان (دار الإسلام)، حفاظاً على الدين! وحيث يمكن للمسلمين العيش بأمان.
وعلى مدى نحو قرن، تجذرت لدى الأغلبية الهندية المسلمة، فكرة الانفصال عن الهنود غير المسلمين، وكانت المأساة الأولى في عام ١٩٤٨، إثر استقلال الهند، وانفصال باكستان، بعد اقتتال راح ضحيته ملايين من الهندوس والمسلمين.
وفي مطلع السبعينيات، جرت حرب بشعة أخرى، لكن في هذه المرة، كانت بين المسلمين أنفسهم، وانفصلت بنجلاديش عن باكستان، لأسباب أخرى، تتعلق بالهوية الثقافية والعرقية وعوامل اقتصادية أخرى تتعلق بالتمييز.
انتشرت أفكار وفتاوى «الجهاد» و«الهجرة»، في بلاد إسلامية أخرى، وبخاصة في آسيا الوسطى والقوقاز والبوسنة وجاوة وسومطرة، كما وصلت إلى الجزائر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وإلى السودان في نهاية القرن نفسه، وفي ليبيا في مطلع القرن العشرين.
وعرفت بلاد الشام والأناضول، هجرات الآلاف من المسلمين الشيشان والشركس والداغستانيين وغيرهم، منذ منتصف القرن التاسع عشر، وحتى ثلاثينيات القرن العشرين.
وفي هذا الإطار، جاء (أبو الأعلى المودودي) في الهند، قبل تقسيمها، داعياً إلى (هجر) جاهلية المجتمع، ومركزاً على مسألة (الحاكمية لله)، وعلى فكرة استحالة «تعايش الإسلام مع الدولة غير المسلمة في دار واحدة».
وقد انتقل هذا الفكر إلى عدد من الدول الإسلامية، ومن بينها مصر حيث تشكلت في النصف الثاني من القرن العشرين، ما عرفت بجماعات «الدعوة والهجرة»، وجماعات «التكفير والهجرة»، والتي كفّرت الحكّام، والمحكومين لرضاهم بحكامهم، وكذلك علماء دين، بحجة عدم تكفيرهم أولئك الحكّام، ودعت إلى اعتزال المجتمع الجاهلي، عزلة مكانية، وعزلة شعورية، بما فيها اعتزال المساجد التي يحكمها (علمانيون كفرة)!
ومن أبرز قادة هذه الجماعات المتطرفة المصرية، المدعو (شكري مصطفى)، الذي بايعته جماعته، أميراً للمؤمنين!! وقام بدوره، بتعيين أمراء للمحافظات المصرية من أتباعه، واتخذ مقارا سرية لجماعته في المدن الرئيسية، وهاجر بعض أتباعه إلى مغارات وكهوف، تطبيقاً لمفاهيم فكرة هجر «جاهلية المجتمع».
وقامت هذه الجماعة بتخزين المؤونة والأسلحة في كهوف ومناطق نائية، واعتبرت أن المجتمع المصري كله، خارج الجماعة، كافر، ومن ثم يجب تصفيته ومقاتلته، ونفذت عملية خطف وقتل وزير الأوقاف (محمد حسين الذهبي) في عام ١٩٧٧.
وفي قناعة هذه الجماعات، أنها قد بلغت درجة «الإمامة والاجتهاد المطلق»، وقد انتشرت أفكارها في عدد من الدول العربية، لكن بشكل محدود، ومن بينها الأردن واليمن والجزائر.
أما مسألة الهجرة داخل الوطن، واعتزال المجتمع، فقد راودت أيضاً بعض العلماء والكتاب المصريين، من التيارات الإسلاموية السلفية، في منتصف القرن العشرين، لكن بعيداً عن العنف المسلح، ومن بين هؤلاء الشيخ (أحمد موسى سالم)، الذي التقيته في منزله في حلوان، في منتصف السبعينيات، وقد حدثني عن قراره وصحبه، الهجرة إلى سيناء، ومحاولة إقامة مجتمع عربي إسلامي، يتحلى «بقيم البادية العربية». وقد استقر فيها وزوجه وأبناؤه، إلا أن تجربته كانت قاسية، فعاد إلى القاهرة، ليكون كاتباً وصحفياً، ثم عضواً في مجلس الأمة المصري، وظل يحمل صورة ومسلك الفلاح البدوي، وقبل رحيله إلى دار البقاء، صار عضواً في المجلس الأعلى للفنون والآداب.
وعودة إلى الهند، حيث كان (أبو الأعلى المودودي) والمتوفى في عام ١٩٧٩، يطالب المسلمين الهنود بإقامة «حكم الشريعة» في الأرض، بمعنى دولة الخلافة، باعتبارها حسب معتقده من مقتضيات الدين، وليست حاجة بشرية، لحفظ الحقوق والنظام وإدارة الشأن العام.
وفي مفهومه للحاكمية، أن «الدين هو أساس أي تجمع بشري، وليس الأرض ولا الثقافة ولا القومية، ولا الدولة، وبالتالي، فإن لمسلمي شبه القارة الهندية، وطنهم المستقل، بعيداً عن المجتمع الجاهلي الذي تكثر فيه المعتقدات الهندوسية».
ومن ناحية أخرى، ظهرت في الهند، تيارات عقلانية معتدلة في فكرها الديني الإسلامي، تتلاءم وتتعايش مع أوضاع الهند، وهي تيارات حرّمت «الجهاد والهجرة» معاً، باعتبار أن «إعلان الجهاد على المجتمع الهندي، يؤدي إلى الهلاك، وبخاصة في حالة الاستضعاف التي كان يعيشها مسلمو الهند، وأن الهجرة، تؤدي إلى الهلاك أيضاً، وفقدان الديار، وخسران الإسلام دياراً شاسعة إلى الأبد».
في الرؤية الإسلامية للعالم، أنه مكون من شعوب وقبائل، مختلفة ألوانها وألسنتها وعقائدها وطبائعها، وأن الخالق لهذا الكون واحد، وأن المنهج الصحيح لإدارة الاختلاف، وتحويله إلى أمر إيجابي هو التعارف والحوار، والاعتراف المتبادل بالمصالح المختلفة، والتعرف على القواسم المشتركة، وبما يوّلد التعاون والوئام الإنساني، والتسابق إلى الخيرات، وتحمّل مسؤولية عمران الأرض.
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة