الدوحة تتحول تدريجياً من دولة ذات سيادة إلى دولة تحت "الحماية"، على اعتبار أنها افتقدت، عمليّاً، استقلالية القرار السياسي.
يُجمع مختلف الباحثين في شؤون التنظيمات الدينية المتطرفة على تماهي الأطروحة الإخوانية، على مستوى التكتيكات الميدانية للوصول إلى ما يصطلح عليه في أدبيات تنظيمات الإسلام السياسي بـ"مرحلة النصر والتمكين"، مع تكتيكات التحرك التي تنتهجها الجماعات التي تُصنف نفسها على أنها تنتمي إلى التيار السلفي الجهادي، خصوصا في الجانب المتعلق باستغلال حالات النكاية والإنهاك التي تعاني منها بعض الأنظمة السياسية لمحاولة وضع اليد عليها، سواء بإخضاعها لمنطق "التوحش" العنيف، أو محاولة استغلال الوضع السياسي الهش للتدخل ومحاولة سحب البساط من تحت أقدام السلطة السياسية، سواء بتوجيهها لإعمال الآلية الديمقراطية، والتي ستمهد الطريق لوصول تيار الإسلام السياسي إلى الحكم، في حالة نجاحه "المسبق" في تكتيكات الانتشار الجماهيري والاختراق المؤسساتي، وإما محاولة إخضاع البلد لسلطة دولة حليفة للإخوان، ليسهل إيجاد موطئ قدم لها وفق تفاهمات سياسية متفق عليها سلفا.
فشل حلم الإخوان في فرض الوصايا على الكويت إبّان الغزو العراقي، تم تحقيقه بعد أقل من ثلاثة عقود، بإخضاع دولة قطر الشقيقة، والتي باتت مطالبة باتخاذ إجراءات استعجالية "للفكاك" من القبضة الإيرانية-التركية، والرجوع إلى حاضنتها الطبيعية مع جيرانها
وقد يبدو الطرح معقدا وصعبا على الفهم والاستيعاب، لكن تتبع خيوط الإيضاح والبيان تفي بالبرهان على موضوعية وخطورة الطرح الذي نحن بصدد التأصيل له.
في هذا السياق، وعلاقة بجوهر الأطروحة التي نحن بصدد التأصيل لها، نضع بين يدي القارئ العربي تفريغا لإحدى الخرجات الإعلامية للقيادي والقطب الاقتصادي الإخواني يوسف ندا في حواره مع الإخواني الآخر أحمد منصور على شاشة قناة الجزيرة في برنامج "شاهد على العصر". هذا وكانت مناسبة الحديث التطرق لزيارة يوسف ندا للعراق للقاء صدام حسين إبان الغزو العراقي للكويت، مصحوبا بأحد القيادات الإخوانية الكويتية التي لم نستطع الكشف عن هويتها.
الهدف من الوساطة الإخوانية: مخطط لوضع الكويت تحت الوصايا الإيرانية
شاءت الأقدار أن تكون الكويت ضحية للغزو العراقي لأراضيها، واضطرت القيادة الكويتية أن تواجه، آنذاك، وتناور على جبهات ثلاث مختلفة:
- الجبهة العسكرية لرد الغزو العراقي.
- الجبهة الدبلوماسية والسياسية لمواجهة أطروحات ما سمي آنذاك بدول "جبهة الرفض أو الضد".
- الجبهة الأيديولوجية ممثلة في تيارات الإسلام السياسي بشقيها السني والشيعي، والتي سعت لاستغلال حالة الضعف والإنهاك لإخضاع الكويت لأجندتها السياسية.
على هذا المستوى من البحث، أثارنا تصريح يوسف ندا، القيادي الإخواني وأحد أهم حلفاء إيران، داخل التنظيم، حيث قال في معرض شهادته التي أحلنا إليها أعلاه ما نصه: "الموضوع هو أنه لما اقتحم الجيش العراقي الكويت، أنا كنت سمعت هذا الكلام قبل ذلك بيومين.. وأثناء الغزو كان لإخوان الكويت دور كبير لم يكن لغيرهم القدرة على القيام به.. وتم تكليفي من قبلهم بالتدخل للوساطة مع صدام حسين لإنهاء الأزمة، وكان مشروع الوساطة الذي اقترحته على صدام حسين هو أن ينسحب الجيش العراقي وتدخل جيوش إسلامية بداله".
وعن طبيعة هذه الجيوش الإسلامية وجنسيتها يوضح يوسف ندا بالقول: "أي نعم، لكن فيه دول مستبعدة، لأنه هو (صدام) لا يمكن أن يقبلها، ومنها دول المنطقة التي تتكون من 32 دولة إسلامية، ذهبوا لمحاربة المسلمين هناك في الصفوف الأولى، هذه كانت مستبعدة، لكن الذي كان مستبعدا أن يتحالف مع أعدائه كانت "إيران"، وعلى هذا الأساس تم اختيارها، ثم فكرنا في ماليزيا وفي إندونيسيا.. يعني عُرضت عدة دول ممكن تتكون منها وحدات عسكرية يُسمح لها بدخول الكويت، وبعدما تدخل الكويت ينسحب الجيش العراقي، وتتولى القوات الموجودة في الكويت تنظيم انتخابات حرة "زي ما الكويتيين عايزين" على حسب تعبيره في اللقاء.
لقد حاولنا أن نضع بين يدي القارئ العربي شهادة يوسف ندا كما هي، ويمكن أيضا مراجعتها على موقع اليوتيوب، للتأكد منها، والوقوف على حقيقة الأطروحة الإخوانية، والتي حاولت الاستثمار في معاناة الشعب الكويتي والمأزق السياسي الذي كانت تعاني منه الأسرة الحاكمة في الكويت؛ من أجل محاولة إخضاع هذا البلد العربي لأطروحة الإخوان المسلمين، عبر استغلال الآلية الديمقراطية والحماية الإيرانية؛ من أجل خلق كيان سياسي حليف ومتماهٍ مع الأجندة الصفوية بالمنطقة العربية.
غير أن فطنة الأسرة الحاكمة ويقظة الدول العربية المشاركة في التحالف الدولي لتحرير الكويت، أفشلتا هذا المخطط، وفوتتا على الإخوان الوصول إلى الحكم وإخضاع أول دولة عربية وإسلامية لحكم الإخوان المسلمين منذ تأسيس التنظيم على يد المرشد حسن البنا شهر مارس سنة 1928.
ويبدو أن المخطط الخبيث الذي فشل في تطبيقه الإخوان في الكويت سينجح في قطر بعد 27 سنة، من خلال النجاح في إلحاق قطر سياسيا وعسكريا وأيديولوجيا بمثلث "إيران- تركيا- الإخوان".
قطر: من أزمة سياسية إلى أزمة سيادية.
لقد عرّف القانون الدولي العناصر المادية المكونة للدولة، وحصرها في: الشعب والإقليم والسلطة السياسية المنظمة، وأضاف إليهم العُرف الدولي (La coutume internationale) عنصري "السيادة" و"الاعتراف" لاكتمال الشكل القانوني للدولة. وهنا اعتُبرت السيادة امتداداً للسلطة السياسية للدولة، الشيء الذي دفع البعض إلى تكييفها "ركناً رابعاً" من الأركان المادية المؤسسة للدول، فيما شكلت آلية "الاعتراف الدولي" أداة فعالة للحد من استفادة بعض التنظيمات المتطرفة أو العنصرية من امتياز الشخصية القانونية حتى لو استطاعت تجميع العناصر المكونة للدولة (داعش والقاعدة على سبيل المثال لا الحصر).
إن عملية استقراء للبيئة الاستراتيجية القطرية تقطع بأن الدوحة افتقدت، للأسف، لأهم مقومات السيادة الوطنية من خلال الوقوف على قرائن قوية تفيد بأن القرار السياسي القطري أصبح يخضع، عمليّاً، لإملاءات خارجية تتماهى مع الأطروحة الإيرانية-التركية على المستوى السياسي، مع مواصلة الانضباط للطرح الإخواني الذي راهن عليه نظام الدوحة، منذ سنوات، من خلال نجاح التنظيم في تكتيكات الانتشار والاختراق كان الغرض منها إخضاع قطر، على المدى البعيد، للأطروحة الإخوانية، ولو في ظل سلطة سياسية صورية.
في هذا السياق، فإن افتقاد قطر لبوصلة القرار السياسي واكبه، بالموازاة مع ذلك، انهيار في منظومة القدرة على فرض السيادة الاقتصادية على الثروات الطبيعية، على اعتبار أن قوة قطر الاقتصادية أسهمت بشكل كبير في إفراز قرار سياسي قوي دفعها إلى الطموح لإخضاع دول المنطقة، بعدما تم حقن صانع القرار السياسي القطري، من طرف التيار الإخواني، بعقيدة الزعامة الإقليمية وإمكانية تحولها إلى "مركز ثقل" العالم الإسلامي السني "المعتدل".
ويبقى من تمظهرات انهيار منظومة السيادة الاقتصادية على الثروات الطبيعية القطرية ما أعلنه وزير النفط الإيراني بيجن زنكنه بتاريخ 28 يناير 2018 عن تخطي حجم إنتاج بلاده شريكتها قطر في حقل الغاز المشترك بينهما "بارس الجنوبي"، والذي تطلق عليه الدوحة "حقل الشمال"، في ظل العلاقات الوطيدة التي تجمع الإمارة الخليجية مع النظام الإيراني على خلفية الأزمة الخليجية، منذ مطلع يونيو 2017.
إن دولة قطر، ورغم افتقادها للعمق التاريخي والحضاري، إلا أنها استطاعت، من خلال سياسة إعلامية واحتياطات هائلة من الغاز الطبيعي، أن تصبح رقما مهمّا في المعادلة السياسية بالمنطقة، خصوصاً بعد احتضانها للتيار الإخواني في جميع دول العالم وقدرتها على تحريك التنظيمات الإرهابية لإنهاك الدول الإقليمية الأخرى التي لا تتبنى بالضرورة الطرح السياسي للدوحة.
لقد أسهم التوهج السياسي لقطر، والدعم الكبير لكل من إيران وتركيا وحتى إسرائيل، إلى تطلعها للعب أدوار، يعتبرها البعض، أكبر بكثير من حجمها الحقيقي. هذا المعطى، دفع قطر إلى تبني أطروحة "اللاعب البديل" في المنطقة والحلم بأن تُصبح عاصمة الإسلام السياسي والممثلة الشرعية للإسلام السني، خصوصاً مع ضمان ولاء الإخوان والتنظيمات التكفيرية التي استطاعت أن تخترقهم بقوة المال والإعلام.
وعلى ضوء ما يتم تسجيله يوميّا من تعبيرات سياسية ودبلوماسية، يمكن القول بأن الدوحة تتحول تدريجياً من دولة ذات سيادة إلى دولة تحت "الحماية"، على اعتبار أنها افتقدت، عمليّاً، لاستقلالية القرار السياسي، وأصبحت قوتها الاقتصادية والطاقية في خدمة المشروع السياسي لإيران وتركيا في مقابل ما تعتبره قطر أنه المقابل لـ"حماية أمنها القومي"، بعدما أقنعها "الغزاة الجدد" بوجود تهديد حقيقي لوحدة أراضيها ولنظامها السياسي.
لقد نجح الإخوان المسلمون في قطر في مخططهم لإخضاع قطر لنظام الحماية، والذي يَفترض وجود سلطة سياسية محليّة إلى جانب إدارة "أجنبية" تعمل على التصرف في هذا البلد بشكل يتوافق مع أهدافها السياسية، والتحكم اقتصادياً في الأمور المتعلقة بثروات البلاد وعدد من القضايا التي تُحددها الدولة "المحمِيّة" في "أوقات الحماية".
على هذا المستوى من التحليل، يمكن تلخيص الدور الإيراني-التركي في قطر في نقط محددة:
- حراسة الأراضي القطرية براً وبحراً وجواً.
- الحرص على ضمان سلامة وأمن عناصر النظام القطري وتسهيل مهامه (حراسة عناصر الحرس الثوري الإيراني للقصور الرئاسية في قطر)
- إشراك عناصر النظام في تطبيق نظام الحماية.
- تعيين مسؤولين عسكريين إيرانيين وأتراك بصلاحيات واسعة وشبه عامة.
- إخضاع القرار السياسي القطري لموافقة تركيا وإيران بما يتوافق مع الأهداف السياسية والدبلوماسية لهذين البلدين.
إن النتيجة المنطقية التي نصل إليها، هي أن النظام القطري أصبح، سياسيّاً، بلداً "فاقداً" أو على الأقل في الطريق إلى فقدان، السيادة السياسية والاقتصادية على قراراته الاستراتيجية، الشيء الذي يُحتّم على قطر مراجعة اختياراتها قبل الوصول إلى "نقطة اللا عودة"، خصوصاً مع رصد مؤشرات الانهيار الاقتصادي والسياسي كمقدمة للخضوع، كُليّاً، لمشروع ولاية الفقيه والمشروع الإخواني بالمنطقة.
ويمكن القول بأن فشل حلم الإخوان في فرض الوصايا على الكويت إبّان الغزو العراقي، تم تحقيقه بعد أقل من ثلاثة عقود، بإخضاع دولة قطر الشقيقة، والتي باتت مطالبة باتخاذ إجراءات استعجالية "للفكاك" من القبضة الإيرانية-التركية، والرجوع إلى حاضنتها الطبيعية مع جيرانها المشكلين للمنظومة المؤسساتية لمجلس التعاون الخليجي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة