ماشادو ده أسيس.. الأب الروحي للأدب البرازيلي
عربيا كانت أولى محاولات ترجمة أعمال البرازيلي ماشادو ده أسيس عبر المترجم السوري سامي الدروبي، مترجم روائع الأدب الروسي عن الفرنسية.
لم يحظ الكاتب البرازيلي ماشادو ده أسيس (1839 -1908) بالشهرة في عالمنا العربي، على الرغم من أنه يوصف بالأب الروحي للأدب البرازيلي المعاصر، ربما لأن أعماله الروائية المكتوبة باللغة البرتغالية جرت ترجمتها في وقت متأخر نسبيا.
وتبدو مشكلة الجهل بإنجازات ماشادو السردية مشكلة عالمية، ذلك لأنه لم يعرف إلا في وقت متأخر في الولايات المتحدة والغرب؛ لأن اللغة البرتغالية ذاتها لم تكن معروفة على نطاق واسع؛ لدرجة أن الدارسين لطالما تساءلوا ماذا لو كان فرنسيا أو إنجليزيا أو إيطاليا أو كان يكتب بواحدة من اللغات الأوربية الكبيرة، وبالتأكيد لو كان قد فعل ذلك لاحتل المكانة نفسها التي بلغها الروائيون الأمريكيون وليم فوكنر وأرنست هيمنجواي.
وعربيا كانت أولى محاولات ترجمة أعمال البرازيلي ماشادو ده أسيس عبر المترجم السوري سامي الدروبي، مترجم روائع الأدب الروسي عن الفرنسية، حيث ترجم رواية بعنوان "كونكاس بوربا" التي صدرت في دار الهلال بعد سنوات بعنوان "الفيلسوف أم الكلب".
وفي ثمانينيات القرن الماضي بدأ المترجم المصري الراحل خليل كلفت رحلته في التعريف بأعمال ماشادو ده أسيس، حيث ترجم "دون كازمورو" وهي روايته الرئيسية، كما ترجم له "السرايا الخضراء" التي نشرت في الأصل بعنوان "طبيب الأمراض العقلية"، وترجم كذلك أهم كتاب نقدي حول أعمال ماشادو أسيس.
ومؤخرا ترجم مارك جمال مجموعة قصصية بعنوان العرافة وقصص أخرى عن دار صفصافة من خلال اللغة الإسبانية وليس عبر البرتغالية.
ومن المثير أنه في الوقت الذي ترجمت فيه أعماله إلى اللغة العربية كان أدب أمريكا اللاتينية المكتوب بالإسبانية يحظى بالاهتمام الأكبر بعد فوز جابرييل جارسيا ماركيز بجائزة نوبل الذي خدم الأدب المكتوب بلغته الإسبانية بأفضل ما يكون، في حين انحصر ماشادو في إطار اللغة البرتغالية التي وصفها الشاعر أولافو بيلاك المعاصر له بـ"مقبرة الأدب".
ولا يمكن للقارئ الراغب في اكتشاف الأدب البرازيلي تفادي اسمين كبيرين، الأول هو ماشادو ده أسيس والثاني هو جورجي أمادو الأفضل حظا، في حين تبقى لأسماء أخرى في مقدمتها باولو كويلهو قيمة تجارية أكثر منها قيمة فنية.
ولد ماشادو في 21 يناير 1839 في ريو دي جانيرو وبها عاش وتوفي؛ وتعد رحلته في عالم الأدب رحلة كفاح بالمعنى الاجتماعي إذ ينتمي لأسرة فقيرة وبائسة لم تمكنه من نيل التعليم النظامي.
وكان من الممكن في ظروف بلاده الاجتماعية والاقتصادية أن يعيش حياته في أسفل السلم الاجتماعي وعلى هامش مجتمعه؛ إلا أنه منذ طفولته التحق للعمل بمطبعة في وظيفة "جامع" حروف الطباعة، ثم مصحح بروفات طباعية وبفضل هذه المهنة أدمن القراءة وشغف بها وكان يخوض نقاشات أدبية مع كل المترددين على المطبعة، ثم أصبح كاتبا بإحدى المجلات الأدبية ووجها معروفا من وجوه المجتمع الأدبي وتوسع حضوره بحيث نال وظيفة سمحت له بإتاحة مزيد من الوقت للكتابة والتفرغ للإبداع، فقد كانت كلها وظائف ذات صلة بالكتابة، وتحقق له قدرا من الأمان الاجتماعي قاده لتأسيس الأكاديمية البرازيلية للأدب، التي ظل رئيسا لها حتى وفاته في 29 سبتمبر 1908 عن عمر ناهز 69 عاماً.
من ناحية أخرى تبدو سيرته بالغة الإثارة، فليست بداياته الفقيرة فقط هي ما تثير؛ لأنه في حياته اليومية كان يعاني من نوبات صرع وتلعثم خلال الحديث، وكان يعاني كذلك من أزمة هوية نظرا لأصوله العرقية، فأمه برتغالية ووالده برازيلي له أصول أفريقية، وتظهر الشخصية الأرستقراطية في أعماله، بحسب مترجم أعماله خليل كلفت.
وبين 1858 و1906، كتب ماشادو أكثر من مائتي قصة، وما من كاتب آخر فى البرازيل وصل إلى مستوى تمكنه التكنيكى الفائق في شكل القصة قبل ثلاثينيات القرن العشرين، ولعله هو الكاتب الأهم في السعي لتأسيس الرواية الغرائبية التي عاش عليها أدب أمريكا اللاتينية من خلال روايته الشهيرة "دون كازمورو" التي نشرت عند نهاية القرن التاسع عشر تماما وترجمها إلى العربية خليل كلفت وصدرت في القاهرة أوائل تسعينيات القرن الماضي.
كما ترجم له كلفت مختارات قصصية ظهرت عبر سلسلة الإبداع العالمي التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون في الكويت.
وهناك إجماع بين دارسي الأدب البرازيلي على أن رواية "دون كازمور" هي رواية فاصلة في مسيرته، تميز نهاية عصر وبداية عصر كامل وربما كانت الكلمة الأخيرة في أدب القرن التاسع عشر برازيليا وهي بهذا المعنى لا تقل في بلدها أهمية عن أعمال دوستويفسكي التي اعتمدت اعتمادا كاملا على الغوص في أعماق النفس البشرية وتفكيك هواجسها أو إثارتها من جديد داخل نفوس القراء، ولعل هذا الجانب ما لفت نظر سامي الدروبي إلى أعمال ماشادو دي أسيس قبل الآخرين؛ لأنه وجد فيها نفس ما لدى دوستويفسكي من حفر في النفوس.
ومن المميزات التي ظلت لصيقة بكتاباته قدرته على أن ينقل الأدب البرازيلي من الاهتمام بالأسطورة بوصفها وثيقة في الوعي الجمعي إلى كونها جزءا من نسيج الحياة وطريقة للنظر إلى العالم وتفسيره.
من ناحية أخرى عبر كتاباته تجسد إصراره على أن يتبنى رؤية للعالم تقوم على توجيه النقد الحاد لمجتمعه الذي كان يعاني من مختلف أنواع الانقسام الاجتماعي ولكن برهافة إبداعية، فلا تزال رواية "دون كازمورو" تقرأ بوصفها وثيقة ضد التسلط السياسي ونقد مجتمع الاستبداد من خلال المجازات التي تؤطر مضمونها العائلي إلى جانب لجوء الكاتب إلى ما يسمى بـ"المحاكاة الساخرة".
ووفقا لهذه الاعتبارات الجمالية يصر دارسو أعماله ومنهم الأمريكي بول ديكسون على اعتباره أحد آباء الحداثة في رواية أمريكا اللاتينية، كما أثبت ذلك في كتابه "الأسطورة والحداثة" الصادر عن المركز القومي للترجمة، وفي قصصه القصيرة كما في روايته المهمة رغم قصرها "السرايا الخضراء" تتأكد كفاءة الكاتب وقدرته على الكتابة بنمط من التشويق العاطفي أو الفكري دون أن يضحي بالحبكة والتكنيك الفريد.
aXA6IDMuMTQ0LjkyLjE2NSA= جزيرة ام اند امز