يواجه مشروع ITER الذي يحتضن أكبر مفاعل نووي على وجه الأرض انتكاسة تهدد مستقبله، بعد 40 عاما على إطلاق الفكرة، ونحو 20 عاما على احتشاد أقوى دول العالم لتمويله وبنائه.
والانتكاسة مصدرها "إفراط في التفاؤل" ارتكبه مؤسسو المشروع، الذين اصطدموا (بعد 14 عاما من إطلاق المشروع) بواقع يؤكد أن المشروع سيستغرق قرابة 15 عاما أخرى من الآن لحين اكتماله، فضلا عن احتياجه لمزيد من التمويلات المليارية الضخمة بخلاف تلك التي ابتلعها بالفعل.
وقد يؤدي طلب المزيد من التمويل إلى انسحاب بعض الدول، الأمر الذي قد يقود بدوره إلى تعطل المشروع أكثر أو انهياره في أسوأ السيناريوهات.
ما مشروع ITER؟ ولماذا هو شديد الأهمية؟
بدأت دراسات المفهوم الأولية لمفاعل ITER في عام 1985، ثم تمت الموافقة الرسمية على المشروع عام 2006، وبدأت أعمال الإنشاء الفعلية في موقع المفاعل جنوب فرنسا عام 2010.
واسم مفاعل ITER هو اختصار لـ(المفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي "International Thermonuclear Experimental Reactor"، في حين تعني كلمة ITER باللاتينية: (الطريق).
ويهدف هذا المشروع الدولي الكبير إلى اختبار تقنيات الاندماج النووي كمصدر للطاقة، وإثبات جدوها لإنتاج طاقة نظيفة وآمنة بطريقة مستدامة، مستخدماً طاقة مشابهة لتلك التي تحدث في النجوم مثل الشمس.
ويعتمد المفاعل على تقنية الاندماج الذري، حيث يتم دمج أنوية ذرات الهيدروجين معاً لتكوين هيليوم، مما يفرز كميات هائلة من الطاقة.
لا يورانيوم.. لا نفايات.. لا إشعاعات.. والوقود: "ماء"
والأهمية الشديدة لهذا المشروع النووي تكمن في أنه لا يستخدم وقودا نوويا مثل المستخدم في المفاعلات النووية، وبالتالي فإن النفايات الناتجة عنه تكاد تكون معدومة.
كذلك، فإن المفاعل يحد بشكل كبير من المخاطر المتعلقة بالمفاعلات التقليدية فيما يخص تسريبات الإشعاعات النووية، واحتمالات الانفجار.
والهيدروجين المستخدم في ITER يتم الحصول عليه من الماء العادي، الذي يحتوي على الديوتيريوم بنسبة منخفضة، والتريتيوم الذي يمكن أن ينتج من تفاعلات النيوترونات في البلازما.
وبما أن هذه العناصر متوفرة بشكل وفير في الطبيعة، فإنها لا تسبب مشكلات بيئية مثل مشاكل التخلص من نفايات اليورانيوم في المفاعلات التقليدية.
35 دولة تشارك في بناء مفاعل ITER
تم بناء مفاعل ITER في "كاراداش" بفرنسا بالتعاون بين الاتحاد الأوروبي (27 دولة) والولايات المتحدة وروسيا والصين والهند وكوريا الجنوبية واليابان.
وكانت سويسرا والمملكة المتحدة (قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) تشاركان في مشروع ITER .
وقد حشد هؤلاء الأعضاء لغزو واحدة من أبعد الحدود في العلوم، وهي إعادة إنتاج الطاقة اللامحدودة على الأرض.
وباعتبارهم موقعين على اتفاقية ITER، المبرمة في عام 2006، يتقاسم الأعضاء السبعة تكاليف إنشاء المشروع وتشغيله وإيقاف تشغيله، كما أنهم يشاركون النتائج التجريبية وأي ملكية فكرية ناتجة عن مراحل التصنيع والبناء والتشغيل.
وأوروبا مسؤولة عن الجزء الأكبر من تكاليف البناء (45.6%)؛ أما الباقي فيتم تقاسمه بالتساوي بين الصين والهند واليابان وكوريا وروسيا والولايات المتحدة (9.1%).
ويمثل هؤلاء الأعضاء معًا ثلاث قارات وأكثر من 40 لغة ونصف سكان العالم و85% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
كما أبرمت ITER أيضا اتفاقيات تعاون فني مع الدول غير الأعضاء مثل أستراليا وكازاخستان وكندا وتايلاند وغيرها.
لماذا يحتضن مشروع ITER أكبر مغناطيس في العالم؟
يحتضن مشروع ITER أكبر مغناطيس في العالم لأسباب عدة تتعلق بطبيعة تقنية الاندماج النووي ومتطلباتها الفريدة.
وتعود الأسباب الرئيسية لاستخدام مغناطيسات ضخمة في ITER إلى ضرورة التحكم في البلازما (الغاز المشحون كهربائياً الذي يتم تسخينه في مفاعل الاندماج لتحقيق درجات حرارة شديدة)، حيث تستخدم المغناطيسات الكبيرة للسيطرة على وحدات البلازما بطريقة تسمح بالحفاظ على اتزان حراري ومغناطيسي داخل الغرفة الحرارية.
ويساعد المغناطيس في تحقيق الاندماج النووي، إذ يجب إيواء البلازما في بيئة تفوق درجة حرارة النجوم بمرات كثيرة، والمغناطيسات الضخمة تستخدم للحفاظ على البلازما على شكل مدار مستديم داخل مفاعل ITER، مما يساعد على الحفاظ.
بالإضافة إلى ذلك، تتطلب عمليات الاندماج النووي في ITER دراسة وتطوير تقنيات جديدة للمغناطيسات وموادها، والتي قد تؤدي إلى تطبيقات تقنية أخرى خارج مجال الاندماج النووي، مثل التطبيقات الطبية والتقنيات الفضائية.
ما هي البلازما؟
عندما يتم تسخين الغاز إلى درجات حرارة شديدة جدًا، تفقد الذرات في الغاز إلكتروناتها وتتحول إلى جزيئات مشحونة كهربائيًا إيجابيًا وسالبًا. هذا يؤدي إلى تكوين مزيج من الأيونات والإلكترونات المتحركة بشكل حر في نواة معقدة تسمى البلازما.
والبلازما هي الحالة الرابعة من حالات المادة، بعد الصلب والسائل والغاز، وتمتاز بخصائصها الفيزيائية الفريدة مثل قدرتها على إجراء التيار الكهربائي واستجابتها للمجالات المغناطيسية.
في حالة ITER، يتم إنشاء واحتواء البلازما داخل الجهاز باستخدام المغناطيسات العملاقة للسيطرة عليها وتحقيق شروط مثلى لحدوث عمليات الاندماج النووي.
ومن أهم خصائص البلازما في ITER الحرارة العالية، حيث يتطلب تحقيق الاندماج النووي درجات حرارة تفوق ملايين الدرجات المئوية، والشحن الكهربائي، حيث البلازما تتألف من أيونات وإلكترونات مشحونة كهربائيا، مما يجعلها قادرة على تفاعلات كهرومغناطيسية مع المغناطيسات في المفاعل، والاستقرار المغناطيسي، حيث المغناطيسات في ITER تستخدم لإنشاء حقول مغناطيسية قوية للحفاظ على البلازما في شكل مستديم داخل الجهاز دون أن تلامس جدرانه، وهذا يسمح بتجنب فقدان الطاقة وضمان استمرارية التفاعل النووي.
وباختصار، فإن البلازما في مشروع ITER هي الوسيلة التي يتم فيها توليد واحتواء الطاقة النووية المحاكاة لظروف الشمس والنجوم، بهدف تحقيق مصدر طاقة نظيف ومستدام للمستقبل.
لماذا يوصف المشروع بأنه أكبر "توكماك" في العالم؟
التوكاماك هو تصميم الجهاز الذي يتم فيه إنتاج واحتواء البلازما المشحونة بالطاقة داخل المفاعل النووي.
وتصميم توكاماك يستخدم حلقة من الأقطاب المغناطيسية للحفاظ على البلازما داخل حجرة تشبه الحلقة، مما يمكنه من الاحتفاظ.
والاسم "توكاماك" يشير إلى الهندسة البلازمية التي تستخدم حلقة من المغناطيسات لاحتجاز وتحتفظ بالبلازما المشحونة بالطاقة داخل المفاعل.
ويحتضن مشروع ITER أكبر توكماك في العالم، لكن هناك مفاعلات توكاماك أخرى تم تطويرها وتشغيلها حول العالم.
ببساطة.. كيف يعمل مفاعل ITER؟
في مشروع ITER يتم توليد الطاقة من خلال عملية الاندماج النووي، وهذه العملية تحدث عندما تتحد أنوية ذرات الهيدروجين معًا لتشكل أنوية هليوم، مع إطلاق كميات هائلة من الطاقة.
لتحقيق الاندماج النووي في ITER، يتم توفير ظروف خاصة داخل حجرة التفاعل باستخدام مغناطيسات قوية. تسخن البلازما (الغاز المشحون بالكهرباء) إلى درجات حرارة شديدة جدًا (بملايين الدرجات المئوية)، وتُحتفظ بها وتُحكم بواسطة الحقل المغناطيسي.
عندما تصل البلازما إلى درجات الحرارة المناسبة وتتمكن من الاندماج يتم إطلاق طاقة هائلة بمقدار يشبه الطاقة التي تنتجها الشمس والنجوم، هذه الطاقة تستخدم لتسخين مائع العمل (مثل الماء)، الذي بدوره يتحول إلى بخار يحرك توربينات لإنتاج الكهرباء، وبالتالي توليد الطاقة.
الميزة الرئيسية للاندماج النووي هي أنها تنتج طاقة بكميات هائلة دون إنتاج نفايات نووية طويلة العمر، كما هو الحال في الانشطار النووي، كما أن الطاقة التي تولدها مثل هذه العملية لا تتضمن مخاطر تتعلق بالانبعاثات.
كم تعادل الطاقة الناتجة عن هذا المشروع؟
في الحقيقة، فإن مشروع ITER يركز بشكل كامل على التجربة نفسها وليس على حجم الطاقة الناتجة عنها، إذ يجب أن نلاحظ أن ITER ليس مفاعلاً لإنتاج الكهرباء بشكل تجاري، بل هو مشروع لاختبار التقنيات وإثبات جدواها لتوليد الطاقة من الاندماج النووي.
ومع ذلك، فإنه عندما يتم تشغيل مشروع ITER بشكل كامل يتوقع أن يولد نحو 500 ميغاواط من الطاقة الحرارية لمدة 400 ثانية على الأقل في كل دورة تشغيلية.
والهدف الرئيسي من مشروع ITER هو تحقيق الاندماج النووي بطريقة تجارية وتجريبية، بمعنى أن يتمكن من إنتاج طاقة بكميات كافية لتسخين مائع العمل وتوليد الكهرباء بطريقة اقتصادية وفعالة.
ما الأسئلة التي يسعى المشروع للإجابة عنها؟
تعتبر التجارب والأبحاث التي تُجرى في ITER أساسية لفهم وتحسين التقنيات المتعلقة بالاندماج النووي، مثل تقنيات التحكم في البلازما، وتصميم المغناطيسات الضخمة، وتحليل الاستجابة النووية، والتكنولوجيات الجديدة لمواد البناء المقاومة للحرارة العالية.
بالإضافة إلى ذلك، يهدف المشروع إلى إثبات مدى إمكانية استخدام الاندماج النووي كبديل نظيف وآمن لمصادر الطاقة التقليدية مثل الفحم والنفط والغاز، والتخفيف من انبعاثات الكربون والتأثيرات البيئية السلبية التي تنتج عنها.
وعلى الرغم من أنه يشمل جوانب بحثية كبيرة، فإن المشروع يهدف في النهاية إلى تطوير تقنيات تجارية تسهم في توفير مصدر طاقة نظيف ومستدام للعالم في المستقبل.
أمل مناخي كبير
في حال نجاح المشروع، فسيكون له تأثير كبير على مستقبل الطاقة، حيث يمكن أن يوفر مصدرًا نظيفًا ومستدامًا للطاقة بكميات هائلة، ويسهم في تقليل اعتماد العالم على الوقود الأحفوري وتخفيف الانبعاثات الكربونية.
ويستخدم ITER تقنيات حديثة جدا في مجالات مثل التبريد بالهليوم السائل، والمغناطيسات عالية الأداء للتحكم في البلازما، ومواد بناء مقاومة للحرارة العالية، وتتضمن التحديات الهندسية لمشروع ITER تصميم وبناء أجزاء معقدة وضخمة بدقة عالية للحفاظ على استقرار البلازما وتحمل درجات الحرارة الشديدة داخل المفاعل.
كما أن مشروع ITER مصمم بأعلى معايير السلامة النووية والبيئية للحد من أي مخاطر محتملة.
وحتى في حال حدوث خلل كبير في مفاعل ITER فقد يؤدي ذلك إلى تسرب للبلازما أو تلف للمعدات، مما قد يتسبب في تلوث محيطي محدود وليس بالأبعاد التي تشابه التلوث النووي الناتج عن انفجار مفاعل انشطار.
تفاصيل الانتكاسة الأخيرة
تكلف المشروع حتى الآن 20 مليار يورو، لكنه سيحتاج إلى 5 مليارات يورو كتكاليف إضافية، كما أن المرحلة الأخيرة من خطة المشروع، التي تتضمن تفاعلا اندماجيا يتضمن وقود الديوتيريوم والتريتيوم، قد تم تأجيلها حتى عام 2039، بدلاً من عام 2035، كما هو الحال في الخطط السابقة التي تم وضعها في عام 2016.
وتأتي هذه الانتكاسة عقب تعطلات كبيرة للمشروع بسبب جائحة كورونا، وأخطاء في المكونات، والتوقف المؤقت عن البناء الذي طالبت به الهيئة التنظيمية النووية الفرنسية، والصعوبات والمخاطر التي ربما حدثت في التصنيع والتجميع.
علاوة على ذلك، أسقطت ITER خططًا لتشغيل المفاعل في العام المقبل لإنتاج البلازما لأول مرة، وبدلاً من ذلك ستبدأ عمليات البحث فقط في عام 2034.
والآن يتعين على أعضاء المشروع -الصين، والاتحاد الأوروبي، والهند، واليابان، وكوريا الجنوبية، وروسيا، والولايات المتحدة- أن يقرروا إذا كانوا سيواصلون الاستثمار في المشروع، على الرغم من التأخير والتكاليف الجديدة.