حادثة المرفأ حولت الوضع اللبناني إلى حالة الرعب السياسي من هول الكارثة على كافة المستويات، ولا سيما المستوى السياسي.
لبنان اليوم ليس كلبنان في أي زمن مضى، في ظل المستجدات على الساحة الشعبية واشتعال الشارع الذي ضاق ذرعاً بالأوضاع السياسية والاقتصادية وما يكتنفها من فساد إداري وسياسي، وبالعودة إلى الأمس القريب إبّان توسع الحراك الشعبي لدرجة الإحراج السياسي لكل التيارات المتصدرة للمشهد اللبناني، في خطوة قلبت القاعدة بجعل التيارات السياسية تسعى للحاق بركب الشارع الجماهيري، الذي كان في مرحلةٍ سابقة يبني الآمال على الكتل السياسية محاولاً أن يوصل صوته إليها لتغيير واقع الحال المرير.
كان من التجاذبات التي واكبت العاصفة الشعبية والاقتصادية في هذه المرحلة أن أدت إلى استقالة حكومة "سعد الحريري"، وترك لبنان في فراغ سياسي في مرحلة حساسة تمخضت فيما بعد عن ميلاد حكومة "حسان دياب"، في ظل توتر وتخبط سياسي أدى إلى تكبيل الحكومة إلى درجة عجزها عن حل أي ملف من الملفات العالقة، بل زاد الأمر سوءاً ولا سيما على الصعيد الاقتصادي الذي شارف فيه لبنان على حافة انهيار العملة واقتراب معظم اللبنانيين من الفقر المدقع، لتأتي حادثة انفجار مرفأ بيروت أو ما أطلق عليه العالم وليس اللبنانيون فحسب "بيروتشيما" نسبة إلى هيروشيما في اليابان .
حادثة المرفأ حولت الوضع اللبناني إلى حالة الرعب السياسي من هول الكارثة على كافة المستويات، ولا سيما المستوى السياسي الذي صار وجهاً لوجه أمام كل التساؤلات وإشارات الاستفهام بدءاً من مصدر تلك المواد المتفجرة وليس انتهاءً بالمتورطين وأسباب الحادثة من فساد وصفقات سياسية، لتتمخض عنه استقالة حكومة "حسان دياب" في ظل ارتباك سياسي لم يشهده لبنان منذ الحرب الأهلية عام 1975 .
ولكن الأمر لن يقف عند هذا الحد بعد أنْ أدرك اللبنانيون ترهل الطبقة السياسية وعجزها عن اللحاق بركب المطالب الشعبية من جهة، وإخفاقها في احتواء أي أزمة من الأزمات التي يعيشها لبنان في ما يقارب العام على انفجار الوضع، وخاصة بالنسبة لسياسة "حزب الله" التي تقوم على تمجيد السلاح الطائفي على حساب لبنان واللبنانيين، و صار مكشوفاً أمام كل لبنان بأن ملف سلاح "حزب الله" هو العثرة الأولى في أي تسوية لبنانية، فلبنان الذي يعاني اليوم أكثر من أي وقت مضى من ما يشبه التخلي الدولي عن دعم اقتصاده وتسوياته السياسية التي بلغت قمة السوء بعد الحادث الأخير الذي كاد أن يدمّر بيروت، وكل ذلك الانكفاء بسبب السلاح الذي تحول إلى انحدار سياسي أبشع من الانحدار الاقتصادي على المستويين الدولي والداخلي، فالمجتمع الدولي يتجنب أي دعم للبنان في ظلّ تمفصل "حزب الله" في مفاصل الدولة، وسيطرته على معظم موارده الاقتصادية واستغلالها لتمويل أجنداته وأجندات داعميه، بالإضافة إلى سيطرته على الكثير من القرارات السياسية وهو المصنف منظمة "إرهابية إرهابية" من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مما يحرم لبنان من أيّ مساهمات دولية لحلّ أزماته بذريعة هذا التصنيف، أّمّا على المستوى الداخلي فكل التيارات السياسية تسير في الحياة السياسية على مضض وبدافع عدم ترك فراغ سياسي، إذا ما غابت عن الساحة في ظل تمترس "حزب الله" وراء سلاحه الذي قد يجر لبنان إلى دائرة الحرب الأهلية، التي تعد نقطة سوداء محفوفة بالدماء والدمار في ذاكرة اللبنانيين، فأدى هذا إلى غياب المشروع السياسي الحقيقي لهذه التيارات في ظل واقع لا يجعل من المسميات الحزبية والسياسية إلا واجهات استعراضية.
فإذا أسقط اللبنانيون حكومتين في مثل هذه الأوضاع، فالحكومة الثالثة لن تكون – إن رأت النور - أوفر حظاً من سابقتيها، لأنها لن تأتِ بجديد مهما حاولت في هكذا واقع، فالمسألة اليوم ليست بأسماء رؤساء الحكومات ولا بتياراتهم السياسية التي تدعمهم، فلبنان أكبر من هذه المسميات مهما بلغت من الأناقة والترتيب والتضخيم الإعلامي الذي لم يعد ذا قيمة عند اللبناني الذي فقد استقراره السياسي والاقتصادي، ولا سيما بعد أنْ صار الشارع اللبناني اليوم يتحدث عن السلاح وحقيقة أنه مصدر الأزمة اللبنانية، وأن كل حل يتم تسويقه ما هو إلا أوهن من بيت العنكبوت ما لم يثبت "حزب الله" وطنيته وهويته اللبنانية بتخليه عن سلاحه من أجل لبنان واللبنانيين، وهو ما يرفض "حزب الله" حتى الآن مجرد الحديث عنه، مما يجعل لبنان على موعد مع ولادة عسيرة لحكومة جديدة، وهي التي لن تكون ذات عمر طويل إن ولدت؛ كون جوهر القضية المتمثل بالسلاح لم يحل.
كل تلك المعطيات تجعلنا ممن يقرأ بأنّ لبنان على طريق التأزم أكثر من كونه على طريق الحل الناجع، في ظل إدراك شعبي لترهل الطبقة السياسية برمتها من جهة، وإدراكه بأن الحل لن يكون ناجعاً في ظل الظروف الدولية والإقليمية والداخلية الراهنة، إنْ لم يتخلَّ "حزب الله" عن سلاحه وعودته إلى الحياة السياسية التنافسية الطبيعية عن طريق البرلمان وصناديق الاقتراع، لإعلاء المصلحة اللبنانية الوطنية على كل مصلحة أو أجندات خارجية ليس من شأنها إلا زيادة بؤس اللبنانيين وشقائهم، بل وحتى القضاء على مستقبل لبنان السياسي الاقتصادي، وهو الحل الذي لا توجد عقلية منفتحة عند "حزب الله" - على الأقل في المدى المنظور - قابلة لتفهم خطورة الوضع العاصف بلبنان، واستيعاب حساسية المرحلة التي لا تتطلب إلا الإخلاص للبنان أولاً؛ الإخلاص الذي لا تتقبله العنجهية والولاء الطائفي الخارجي الذي بنى عليهما "حزب الله" نفوذه التسلطي، مما يجعلنا يقيناً أمام معضلة إسقاط الحكومتين والعين على الثالثة حتى قبل ميلادها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة