الوضع الطبيعي في كل دول العالم هو أن الدولة تمتلك قرار الحرب والسلم مع الدول الأخرى، وهو ما لا ينطبق على حالة لبنان.
جاء خطاب استقالة د. حسان دياب رئيس وزراء لبنان، الذي ألقاه يوم الإثنين 10 أغسطس، كوثيقة إدانة لممارسات الطبقة السياسية الحاكمة. فأشار إلى "فساد مُزمن في الإدارة"، وأن "منظومة الفساد متجذرة في كل مفاصل الدولة"، وأن الانفجار الذي حدث في مرفأ بيروت هو مجرد نموذج للخلل والقصور له ولنظرائه في مجالات أخرى عديدة. ثم أتت عبارته الحاسمة والتي أورد فيها أن حكومته حاولت الإصلاح ولكنها لم تنجح، لأن القوى الحامية للفساد "أكبر من الدولة ولا نستطيع التخلص منها"، ويحول دون التغيير "جدار سميك جداً".
والمعنى الواضح في هذه العبارات أن رئيس الوزراء المستقيل يشير إلى أن الدولة في لبنان أصبحت رهينة لقوة تتحكم بها، وأسيرة لأوضاع بنائية وممارسات سياسية، وأنه ارتبطت بتلك الأوضاع والممارسات مصالح وتنظيمات تُنازع الدولة اختصاصاتها، فهذه الانتقادات ليست موجَّهة فقط لأشخاص أو حتى سياسات، ولكن إلى هياكل نفوذ وشبكات سيطرة لا تملك مؤسسات الدولة تغييرها أو مواجهتها.
وعلى سبيل المثال، فإن الوضع الطبيعي في كل دول العالم هو أن الدولة تحتكر امتلاك القوة المسلحة والتي تتمثل أساساً في الجيش والشرطة، واستخدام هذه القوة في داخل حدودها أو خارجها، وأنها لا تسمح أو توافق على وجود ميليشيات وتنظيمات عسكرية لجماعات أو كيانات داخلية. ولكن الوضع في لبنان مُختلف، إذ تحتفظ العديد من الأحزاب بقوات وفصائل عسكرية على رأسها حزب الله. وإذا كان من الصحيح أن الحزب ليس الجهة الوحيدة التي تحتفظ بتنظيم عسكري، فإنه بالتأكيد يفوق كل الأحزاب اللبنانية من حيث عدد المقاتلين، ونوعية الأسلحة التي يستخدمونها، والتوظيف السياسي لها.
فالحزب مثلاً عمل على تجميع مقوِّمات القوة العسكرية والسياسية والاجتماعية والمالية، وله فروعه وخلاياه في عديد من دول العالم. وترتب على ذلك الازدياد المُطرد لنفوذ حزب الله حتى وصفه البعض بأنه أصبح "دولة داخل الدولة". فهو يُديرُ نظاماً للاتصالات بين قياداته في الداخل والخارج عبر نظام خاص به ومُستقل عن الدولة. وعندما اكتشفت السُلطات اللبنانية وجود مُراقبة في مطار بيروت تابعة لحزب الله، اتخذت الحكومة قراراً بمصادرة شبكة اتصالات الحزب وإقالة مُدير أمن المطار لتواطئه في هذا الأمر، فقام حزب الله باستخدام القوة المُسلحة واحتلت عناصره الشوارع والأماكن الحيوية في بيروت مما اضطر الحكومة إلى سحب قرارها وتقديم استقالتها.
واستخدم الحزب قوته العددية في مجلس النواب للحيلولة دون انتخاب رئيس للجمهورية، فهذا القرار يتطلب أغلبية الثلثيْن. وترتب على ذلك أن لبنان عاش لمُدة عامين ونصف (2014-2016) بدون رئيس للبلاد حتى يتم اختيار المرشح الذي يرضى عنه الحزب. ولما كان من الضروري مُصادقة مجلس النواب على أي تشكيل وزاري، فقد أصبح الحزب القوة السياسية الأولى في البلاد، ولم يعد من الممكن أن يتولى الوزارة أشخاص لا يوافق عليهم.
وعلى سبيل المثال أيضاً، فإن الوضع الطبيعي في كل دول العالم هو أن الدولة تمتلك قرار الحرب والسلم مع الدول الأخرى، وهو ما لا ينطبق على حالة لبنان، إذ يُنازع حزب الله سُلطات الدولة في هذ الشأن، وخصوصاً في العلاقات مع سوريا وإيران وإسرائيل. فبينما تتبنى الحكومة موقف الحياد وعدم الدخول في المحاور والصراعات الإقليمية، فان عناصر حزب الله المسلحة تقاتل في سوريا، وأرسل خبراء ومُستشارين لدعم الميليشيات الحوثية في اليمن. وأعلن أمينه العام في 2012 أنه يتلقى الدعم المعنوي والسياسي والعسكري والمادي من إيران وذلك منذ عام 1982، مما يُشير إلى عُمق العلاقة بينهما. وترتب على ذلك قيام الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وعدد من الدول الأُخرى بفرض عقوبات سياسية واقتصادية على قيادات الحزب والشركات والمصارف والوسطاء الماليين الذين يتعاونون معه.
أدى هذا الوضع أيضاً إلى مواجهات عسكرية مع إسرائيل لم تُقررها الحكومة اللبنانية ولم يشترك فيها الجيش اللبناني. من مظاهر ذلك، قيام الحزب بحفر الأنفاق في مناطق الحدود، والقيام بعمليات تسلل في داخل إسرائيل، وشن الثانية هجمات عسكرية وغارات جوية ضد مواقع لبنانية، واغتيالات لقيادات الحزب. الجدير بالتسجيل هنا هو أن الحزب يتخذ قراراته في شأن التصعيد العسكري مع إسرائيل دون موافقة من الحكومة اللبنانية، كما أنه يُجري مباحثات من خلال وسطاء ويصل إلى تفاهمات معها دون مُشاركة الحكومة اللبنانية.
والنتيجة التي نصل إليها أننا إزاء دولة لا تمتلك حكومتها الأدوات اللازمة لممارسة سلطاتها على كامل إقليمها، وأن هناك في داخلها قوى سياسية تسيطر على أجزاء من أراضيها ولها توجهاتها السياسية الخارجية المخالفة لسياسة الدولة.
وبالطبع، فإن مشاكل لبنان لا تتوقف عند حزب الله، فهناك المحاصصات الطائفية التي ركَّزت القوة في مجموعة من العائلات التي تمتلك الثروة والسلطة، وجعلت التعيين في الجهاز الإداري للدولة يتم على أساس التوزيع الطائفي وليس الجدارة. وهناك الفساد المستشري في أجهزة الدولة والذي أدى إلى استنزاف خزينتها لصالح تلك الأحزاب والعائلات الطائفية.
ومع ذلك، يبقى حزب الله هو الرقم الأصعب في السياسة اللبنانية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة