إن اختبار القيم الليبرالية المعولمة فشل أحيانا وتعثر أحيانا أخرى على مستوى الأفراد والمجتمعات
أكمل في هذا المقال رصد مجموعة القيم الليبرالية التي تم اختبارها على مدار ما يزيد على الخمسة وعشرين عاما الماضية.
القيمة الأخرى التي روج لها الليبراليون لتكون ضمن مصفوفة القيم التي ستسود وتحكم العالم هي ما يمكن أن نسميه "كونية القيم الليبرالية"، بمعنى أن القيم الليبرالية هي ليست قيما أوربية أو أمريكية بقدر ما هي قيم عالمية تصلح لأن يتبناها كل فرد على سطح هذا الكون، باعتبارها قيما خالصة من كل لبث، قيما كاملة الرقي والنبل.
وكتب رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير في أحد مقالاته: "لا يجب أن تعتبر قيمنا قيما أوروبية أو أمريكية فقط، بل هي قيم كونية ستصبح ملكا للإنسان في كل مكان".
إن اختبار القيم الليبرالية المعولمة فشل أحيانا وتعثر أحيانا أخرى على مستوى الأفراد والمجتمعات حتى لو بقيت القيم الأخرى التي تم اختبارها على مدار التاريخ ثابتة مثل العدل والخير والجمال، لأنها قيم لا يدعي أحد أنه صاحبها
بعد الممارسة والتجربة أثبت الواقع أن هذا الكلام غير قابل للتحقق، لأنه جاء من أعلى على غير بينة ووعي، لأن قيم الأفراد في داخل مجتمعاتهم محكومة بروابط ومؤثرات قديمة وثابتة، وهي كل ما يتعلق بالعرف والدين والأيديولوجيات والتقاليد المتوارثة.
وأن أي قيمة قد يروجها أنصار النموذج الليبرالي الأمريكي العولمي ستتحطم أمام أصغر طفل إذا تعارض ذلك مع دينه أو تقاليد بلده.
هذا ما دفع أحد العلماء لإجراء دراسة استقصائية في عام 1998 على تحولات القيم وأساليب الحياة في مجموعة من الدول المتشابهة واختار "هونج كونج – تايومان – الصين – اليابان".
ووصل إلى أن هناك أربعة اتجاهات تحكم تحولات هذه القيم:
- تعزيز الموروث: دلل على ذلك بما يسمى في تلك البلاد ظاهرة "خشوع الأبناء"، فطاعة الآباء والأمهات في هذه البلاد لا يمكن أن تصارعها قيمة ليبرالية مهما قويت.
- صمود الموروث: هو التمسك بالتقاليد، فقد اكتشف الباحث أن التمسك بالتقاليد قرار روحي وسلوكي في هذه الدول.
- تطويع الموروث: وهو محاولة أن يجعل الموروث يتكيف مع القيم الليبرالية المعولمة، وهذا اكتشف الباحث أنه حدث بشكل قليل جدا.
- أخيرا التخلي عن الموروث: وهذا ما أكده الباحث بأن حدوثه نادر جدا لا يذكر.
في المجمل يؤكد الباحث أن القيم الليبرالية التي تحدث عنها توني بلير باعتبارها قيما كونية سقطت وفشلت أمام مجموعة قيم الأفراد داخل مجتمعاتهم.
هنا أعود إلى واحد من مفكري النموذج الليبرالي العولمي الأمريكي وأحد المبشرين به؛ وهو صاموئيل هانتنجتون، حين أشار إلى ضرورة تفكيك الكتلة الصلبة، إذا أراد الأمريكيون إنجاح النموذج الليبرالي، وقصد بالكتلة الصلبة هنا مجموعة الدول التي تحكم مواطنيها قيم ثابتة، وهذا ينطبق على العالم الإسلامي والعربي، فقيم العروبة والدين هي قيم حاكمة، وأشاروا وقتها إلى شهر رمضان وقالوا: "مرعبة تلك الأمة التي يمكن أن تحكمها قيم تجعلهم يأكلون في وقت واحد ويمتنعون عن الأكل في نفس الوقت"، كانوا هنا يشيرون إلى فريضة الصيام عند المسلمين.
وأيضا أشار هانتنجتون صراحة إلى الصين واليابان ومجموعة دول شرق آسيا، لأنها تشكل بالنسبة له ولفوكوياما كتلة صلبة تحكمها قيم واحدة.
الغريب جدا والملفت أن القيم التي تم رفضها بشكل صريح هي ما يتعلق بقيم الديمقراطية التي على الطريقة الليبرالية، فهناك دراسة مسحية شملت "اليابان – الصين – تايلاند – تايوان – الفلبين".
موضوع الدراسة محاولة معرفة مواقف وآراء الناس حول القيم الليبرالية الديمقراطية الأمريكية المعولمة فنتج عن هذه الدراسة أن أكثر من 65 في المائة من تلك العينة ترفض هذا النموذج وتعترض عليه وتراه نموذجا سيئ السمعة.
35 في المائة أكدوا أن ذلك النموذج يتعارض مع أي تقدم للتنمية على المستوى الاقتصادي وعلى المستوى البشري.
مما سبق يتضح أن اختبار القيم الليبرالية المعولمة فشل أحيانا وتعثر أحيانا أخرى على مستوى الأفراد والمجتمعات حتى لو بقيت القيم الأخرى التي تم اختبارها على مدار التاريخ ثابتة مثل العدل والخير والجمال "لأنها قيم لا يدعي أحد أنه صاحبها".
بقي اختبار قيم العولمة على مستوى الدول، القيم التي تحكم علاقات الدول، أي ما سعوا إليه لخلق نظام دولي ليبرالي معولم.
أو ما أطلق عليه "بوش الأب" النظام العالمي الجديد "في شقه السياسي"، المجتمع الدولي مصطلح قديم، وكما يعرف باعتباره مجموعة دول تربطها أحكام مشتركة وتتشارك في تشغيل مؤسسات مشتركة.
حتى هذا أثبتت ديمومة الأحداث والزمن أن قيم الليبرالية الأمريكية لم تنجح في خلق مجتمع دولي متوازن ومتعادل وعادل في نفس الوقت.
فركائز المجتمع الدولي تكرست في الذهنية العالمية منذ 1648 مع توقيع سلام ويستفاليا الذي أنهى حرب الثلاثين عاما.
هذه الركائز مع النموذج الليبرالي المعولم ضربت في عمقها وهدم بعضها.
فتلك الركائز كانت:
- توازن القوى: منع أي دولة من أن تهيمن بقوتها على الآخرين.
- مدونة القانون الدولي: لضبط التفاعل بين الدول.
- الحوار الدبلوماسي.
- المؤتمرات والاتفاقات والمعاهدات.
سأقف هنا أمام مبدأ واحد فقط من تلك المبادئ، وهو مبدأ "توازن القوى"، فلقد عاش العالم منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية توازن قوى، حيث كانت هناك قوتان تحكمان العالم؛ الاتحاد السوفيتي الشيوعي وأمريكا الرأسمالية الليبرالية.
لما انتصر النموذج الأمريكي وتفكك الاتحاد السوفيتي كان البعض يتوقع أن يُحكم العالم عبر قوى متعددة ومتنافسة من أجل تحقيق مبدأ التوازن وإحداث شراكة أوسع من أن تكون قاصرة على دولتين فقط.
لكن للأسف تفردت أمريكا بحكم العالم وعجزت جميع الدول عن تحقيق مبدأ توازن القوى مع أمريكا ومنعها من التفرد بالحكم والسلطة.
وارتبطت العولمة بالنموذج الأمريكي من "البيبسي كولا" حتى "اقتصاد السوق".
القيمة الأخرى التي أثبت الواقع تعثرها في تكريس مبادئ المجتمع الدولي هي القيمة التي أطلق عليها دعاة وأنصار الليبرالية "الاعتماد المتبادل"؛ وهو مصطلح أخذه مفكرو الليبرالية من المفكر ريشارد كوبدن في بواكير القرن 19، حين قال: "يجب أن يكون هناك اعتماد متبادل بين الدول، وهو في معناه تقليل التواصل بين الحكومات وزيادة التواصل قدر الإمكان بين الأفراد والشركات".
لكن ومع بداية اختبار مبدأ الاعتماد المتبادل اكتشف أنه اصطدم بقيمة أخرى أهم منه، وهي قيمة "السيادة"، لأن زيادة التعامل والتبادل بين أفراد مجتمع وآخر أو شركات مجتمع وآخر تم ضربها في جزء مهم وهو مبدأ سيادة الدول.
ومبدأ السيادة كما أشار إليه إيمانول كانت في رسالته المعنونة "بالسلام الأبدي"، قال: "السيادة تتحقق حين لا تتدخل أي دولة في شؤون دولة أخرى".
في المحصلة أعود إلى ما قاله د.مروان المعشر في مقاله؛ إن فكرة أن تبدل العولمة جلدها أو تتغير فكرة خاطئة، لأن حتمية التاريخ تقول إن القيم إما أن تموت وإما أن تبقى.
والعولمة في شقها القيمي، في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية هي ميتة بالفعل، لكن لا أحد يجرؤ على إعلان موتها.
هي نموذج متشابه مع تراثنا الإسلامي، حين مات سيدنا سليمان وهو متكئا على عصاه، والجن مسخر له، لا هو قادر على أن يختبر وفاته أو حتى يقترب منه، حتى جاءت الأرضة وأكلت منسأته فسقط، وقتها تبين للجن أنه مات.
قد يكون فيروس كورونا هو تلك الأرضة التي ستأكل عصا الليبرالية المعولمة ليعلن العالم موتها والبحث عن نموذج آخر؛ نموذج تحل فيه الإنسانية محل السياسة، والحكم الخدمي الوظيفي محل الحكم السلطوي، والاقتصادي لفائدة الناس وليس لاستغلال الناس.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة