ما يطالب به جونسون هو معاملة مشابهة لعلاقة الاتحاد الأوروبي مع كندا أو غيرها من الدول التي تربطه بها اتفاقيات تجارة حرة.
تقف بريطانيا اليوم على مفترق طريق خطير في رحلة انفصالها عن الاتحاد الأوروبي الماراثونية، مرت ثمان جولات من مفاوضات ما بعد الخروج دون نتيجة، والخيار اليتيم إذا ما استمر هذا الحال حتى نهاية العام هو الطلاق دون اتفاق، أو الخروج الصعب، كما يسمى في وسائل الإعلام المحلية.
شبح هذا الخيار ابتعد لفترة من الزمن بعدما أبرمت لندن وبروكسل اتفاق الخروج نهاية العام الماضي، ولكنه اليوم عاد مجددا وبقوة في ظل تعثر مفاوضات العلاقة المستقبلية بين الطرفين بعد تنفيذ الانفصال، فقد فاض الكأس بالحكومة البريطانية في هذه المفاوضات وقررت المواجهة مع بروكسل.
يدرك رئيس الحكومة بوريس جونسون أن الخروج دون اتفاق سيفرض واقعاً جديدا على المملكة المتحدة، ربما يصل إلى حد انقسامها لثلاث دول، وعلى الرغم من ذلك لا يفضل التنازل للاتحاد الأوروبي، ولا يقبل باتفاق ينتقص من السيادة البريطانية على كامل تراب المملكة ومياهها وسمائها.
يعرف القاصي والداني أن البريطانيين لم يكونوا يوما موحدين إزاء الخروج، ونسبة الفوز في الاستفتاء المصيري عام 2016، كانت لتتغير تماماً لو شارك نصف ممن عزفوا عن التصويت وندموا لاحقا، حالهم في هذا حال كثيرين ممن صوتوا لصالح "بريكست" ثم اكتشفوا أن الأمر مكلف جداً.
ثمة فرضيتان في أزمة جونسون أيضا، الأولى هي أن اسكتلندا اليوم باتت قريبة جدا من الانفصال عن إنجلترا أكثر من أي وقت مضى في تاريخ الوحدة بين المملكتين منذ 1707، والثانية هي أن "الخروج الصلب" سيهدم اتفاق الجمعة العظيمة الذي أوقف الحرب الأهلية بين الإيرلنديتين عام 1998.
رئيس وزراء بريطانيا يدرك كل هذه الفرضيات، ولكنه يدرك أيضاً أن إيرلندا الشمالية هي الخاصرة الضعيفة لبلاده في مفاوضات ما بعد الخروج، وخاصة إذا ما فشل الطرفان في الوصول لاتفاق قبل نهاية العام الجاري، وبات يحق لبروكسل التحكم بتدفق التجارة شكلا ومضموناً بين الإيرلنديتين.
هدد الاتحاد الأوروبي قبل أيام باستخدام هذه الورقة، فردت الحكومة البريطانية عليه بمشروع قانون لتعديل البروتوكول الخاص بعلاقة إيرلندا الشمالية مع الاتحاد بعد الخروج، هذا التعديل إن أقره البرلمان البريطاني ينتهك القانون الدولي باعتراف الحكومة نفسها، ولكن جونسون يعتبره ضرورة.
ما يتسلح به جونسون هو سيادة الدولة، فالاتحاد الأوروبي يصر على نوع من التبعية البريطانية له بعد الخروج، فترد لندن بأن جوهر الاستفتاء المصيري عام 2016 تمثل في الاستقلال التام عن بروكسل، وأي اتفاق لا يضمن هذا الاستقلال، عملاً وتشريعاً، هو خيانة لقرار البريطانيين في ذلك الاستفتاء.
ما يطالب به جونسون هو معاملة مشابهة لعلاقة الاتحاد الأوروبي مع كندا أو غيرها من الدول التي تربطه بها اتفاقيات تجارة حرة، ولكن بروكسل لا تستطيع منح لندن ما تريد لسببين، الأول هو أنها لا تريد تشجيع دول أخرى في التكتل على الانفصال والبحث عن علاقات خاصة مشابهة، والثاني أن تشعب علاقات بريطانيا مع الاتحاد على مدار عقود يصعب فكرة استقلالها التام.
الفكرتان تحتاجان إلى مراجعة، فالسيادة البريطانية يجب أن تراعي الحاجة لعلاقات مميزة مع الاتحاد الأوروبي، فيما يتوجب على بروكسل البدء باتباع سياسة الترغيب بدل الترهيب في الحفاظ على وحدة التكتل، كما أن دمار وحدة واقتصاد المملكة المتحدة لن يكون في صالح الأوروبيين أبداً.
الأساس الثابت الوحيد الذي تحتاجه مفاوضات ما بعد الخروج هو أن الطرفين لا يمكنهما التخلي عن بعضهما، وهذا يفرض عليهما تقديم المزيد من التنازلات، وإبداء المرونة في القضايا الخلافية، وخاصة في الملفات الاقتصادية التي تقوم على المنفعة المتبادلة، وليس على استعراضات السيادة.
على سبيل المقاربة، وليس التسخيف، للحلول الممكنة، قد تكفي بعض التبعية البريطانية للأوروبيين في الصيد البحري لإثبات قيمة التكتل أمام جميع أعضائه، وفي المقابل يمكن لاتفاقية تجارة أوروبية حرة مع المملكة المتحدة على غرار كندا، أن تداوي جراح سيادة لندن البسيطة، إن جاز التعبير.
لا يمكن للأوروبيين تجاهل سعي لندن لتنفيذ قرار الخروج كما أراده البريطانيون، وليس من المجدي الاستمرار في اتهام بروكسل بممارسة العدائية في التفاوض مع المملكة المتحدة، الخلافات بين الطرفين لا يجب أن تستعصي على الحل، وإن وقع ذلك فهو متعمد من أحدهما، وليس فشلاً في التفاوض.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة