«إم 23» تفرض واقعا جديدا بالكونغو الديمقراطية.. هل يتكرر سيناريو 98؟

عندما يعيد التاريخ نفسه في قلب أفريقيا، لا يكون ذلك مجرد صدى للأحداث، بل بمثابة انفجار جديد في مشهد مضطرب، فها هو سيناريو 1998 يطل برأسه مجدداً في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
ففي ظل توترات متصاعدة، تجد كينشاسا نفسها أمام غزو جديد، تشتعل نيرانه على يد حركة «إم 23»، المدعومة من رواندا، والتي باتت تفرض واقعاً مختلفاً على الأرض، أشبه بنظام حكم موازٍ، يعيد تشكيل المنطقة وفق رؤى تتجاوز حدود التمرد التقليدي.
لكن المشهد أكثر تعقيداً من مجرد تمرد مسلح أو دعم خارجي. فالمعادلة الإقليمية دخلت مرحلة حرجة، مع تصاعد الصراعات الداخلية في كينشاسا، والاحتجاجات التي تعكس هشاشة النظام أمام ضربات المتمردين المتسارعة.
لكن الخطر لا يقف عند حدود الكونغو، فبوروندي وأوغندا، اللتان تعانيان أصلاً من أوضاع اقتصادية وسياسية هشة، تجدان نفسيهما على حافة الهاوية، لتتعجل الأولى استنفار جيشها، فيما تناور الثانية بحذر بين المصالح والتحالفات، فهل تتحول الكونغو إلى ساحة لحرب إقليمية شاملة، أم أنها مجرد مرحلة جديدة من لعبة شطرنج معقدة؟
الإجابة من التاريخ
تقول صحيفة «فورين بوليسي»، إن سيناريو 1989 يلوح في الأفق، ويستعيد ذكريات ماضٍ أليم، حيث أدت المرات الخمس التي تعرضت لها الكونغو الديمقراطية إلى حروب دموية واسعة النطاق اجتاحت البلاد بأكملها والمنطقة الأوسع، واجتذبت تسعة جيوش أفريقية.
وتقول جمهورية الكونغو الديمقراطية إنها في خضم غزو جديد، فقد أدى الصراع إلى نزوح ما يقرب من ثلاثة ملايين شخص داخلياً على مدى الأشهر الأربعة عشر الماضية ومقتل الآلاف. ويهدد بإشعال النار في المنطقة بأكملها، وهو ما قد يؤدي إلى زعزعة استقرار الأنظمة المتداعية بالفعل مثل النظام في بوروندي.
إعادة تشكيل المنطقة
وبحسب صحيفة فورين بوليسي، فإنه مع سيطرة حركة إم 23 على مساحات واسعة من المرتفعات الشرقية لجمهورية الكونغو الديمقراطية، بحجم ولاية كونيتيكت الأمريكية، فإنها باتت تسعى لإعادة تشكيل المنطقة، فبدأت بإنشاء هياكل إدارية ـ تعداد سكاني، ومكاتب ضرائب، وحتى زعماء عرفيين جدد ـ وهو ما يشير إلى أنهم هنا ليظلوا على قيد الحياة.
كما قاموا بتجنيد ـ طوعاً في بعض الأحيان، وبغير طوع في أحيان أخرى ـ زعماء محليين لتلقي تدريب سياسي وأيديولوجي في المعسكرات المختلفة، كما أنشأوا قوة شرطة خاصة بهم.
وأشارت إلى أن هناك مؤشرات متزايدة على أن كبار الشخصيات المعارضة في كينشاسا، بما في ذلك الرئيس السابق جوزيف كابيلا، على اتصال بالمتمردين. كما انضم العديد من كبار المسؤولين السابقين في إدارة كابيلا، بما في ذلك رئيس لجنة الانتخابات السابق كورنيل نانجا، إلى تحالف الجماعات المتمردة الذي يضم حركة إم 23.
ليس هذا فحسب، بل إن كابيلا نشر نهاية الأسبوع الماضي مقالاً في صحيفة «صنداي تايمز» الصادرة في جنوب أفريقيا مقالا، كرر فيه وجهة نظر حركة إم 23، وألقى باللوم في الصراع على كينشاسا.
القلق يدب بعواصم المنطقة
وأشارت إلى أن موجات الصدمة باتت محسوسة في العواصم في مختلف أنحاء المنطقة. ففي كينشاسا، برزت هشاشة النظام. فقد أشعل سقوط غوما شرارة الاحتجاجات في العاصمة، والتي أدى بعضها إلى هجمات عنيفة ضد السفارات.
ولقد دفع هذا الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسكيدي إلى تقليص جدول سفره وزيادة أمنه. ولا يعتقد كثيرون أن حركة إم 23 قادرة على الزحف إلى كينشاسا، على بعد نحو ألف ميل عبر غابات بلا طرق إلى حد كبير من الأراضي التي تسيطر عليها حالياً، لكن الضغوط على الحكومة قد تؤدي إلى انهيارها تحت وطأة ثقلها المتناحر.
وفي إطار الحيطة والحذر، أجلت الولايات المتحدة وعدة سفارات أخرى بعض أو كل موظفيها الدبلوماسيين وأسرهم. وفي الوقت نفسه، واصلت القوات الجنوب أفريقية الوصول إلى مدينة لوبومباشي الواقعة في جنوب الكونغو، ربما لمنع تقدم حركة 23 مارس في ذلك الاتجاه.
كما يسود الذعر في بوروندي أيضاً. ووفقاً للدبلوماسيين الذين تحدثوا لـ«فورين بوليسي»، فقد أرسلت الحكومة هناك ما يزيد على عشرة آلاف جندي للقتال إلى جانب الجيش الكونغولي.
فيما تحاول أوغندا أن تخيط إبرة دقيقة للغاية: فمن ناحية، أعرب قائد الجيش ونجل الرئيس، موهوزي كينيروجابا، عن دعمه الحماسي لحركة إم23. وهو قريب من كاغامي، الذي يسميه «عمه» و«معلمه السياسي». وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن الضباط الأوغنديين دعموا حركة إم23 بالخدمات اللوجستية والنقل منذ عام 2023، وكثيرا ما يعقد الجناح السياسي لحركة إم23 اجتماعات في أوغندا.
ومن ناحية أخرى، لا يزال الجيش الأوغندي ينفذ عمليات مشتركة مع نظرائه الكونغوليين ضد المتمردين الأوغنديين المتمركزين في شمال شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية (القوات الديمقراطية المتحالفة).
كما حصلت الحكومة في كامبالا على صفقات تعدين وتجارة مربحة في البلاد. وبعد أن استولت حركة إم 23 على غوما وبوكافو مباشرة، أعلنت أوغندا أنها سترسل عدة آلاف أخرى من القوات إلى شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، لتوسيع منطقة عملياتها هناك.
وتوقعت الصحيفة الأمريكية، أن تتفاقم التوترات الداخلية في أوغندا مع احتدام المعركة على خلافة الرئيس يويري موسيفيني ، الذي يبلغ من العمر ثمانين عاماً ويتولى السلطة منذ عام 1986.
حتى وقت قريب، لم يعتقد الكثير من المراقبين أن رواندا قد تحاول إعادة تشكيل المنطقة بأكملها. رواندا دولة صغيرة يبلغ حجم ناتجها المحلي الإجمالي ضعف حجم غوام (جزيرة يبلغ عدد سكانها 170 ألف نسمة). وهي تعتمد على المساعدات والدعم الأجنبيين ــ في السنوات الأخيرة، تجاوزت المساعدات الأجنبية ربع إيراداتها.
لكن من المتوقع أن تكسب رواندا 660 مليون دولار من السياحة في عام 2024، وقد وضعت نفسها كمركز رئيسي للمؤتمرات، حيث استضافت أكثر من 150 مؤتمرا في عام 2023، وهو ما أفادت الحكومة بأنه حقق لاقتصادها 91 مليون دولار.
ولعل رواندا تعتمد أكثر من أي شيء آخر على «علامة رواندا التجارية» ــ سمعة الكفاءة والاستقرار والبعث المعجز بعد أهوال الإبادة الجماعية التي شهدتها البلاد في عام 1994. وليس من قبيل المصادفة أن تدفع رواندا ثمن الدعاية الباهظة الثمن على قمصان وملاعب أندية كرة القدم مثل آرسنال وباريس سان جيرمان وبايرن ميونيخ.
وتجتذب هذه العلامة التجارية السياح، لكنها ترفع من مكانة البلاد على الساحة العالمية، دبلوماسيا وسياسيا، إلا أنه من الصعب الحفاظ على هذه العلامة التجارية في حين «تغزو» دولة أخرى.
الأيديولوجية
وبحسب الصحيفة الأمريكية، فإن الأيديولوجية تلعب دورا مهما، فقد ظل أفراد النخبة في رواندا يشككون منذ فترة طويلة في الحدود الاستعمارية، وخاصة تلك التي تربطها بجمهورية الكونغو الديمقراطية. وعندما شنت رواندا غزوها الأول لجمهورية الكونغو الديمقراطية ـ التي كانت تسمى آنذاك زائير ـ في عام 1996، أظهر المسؤولون للدبلوماسيين خريطة لرواندا أكبر بنسبة 50% من حدودها الحالية، وتمتد إلى داخل جمهورية الكونغو الديمقراطية.
ونظراً لضعف الجيش الكونغولي، فإن الجهات المانحة والدبلوماسيين ربما يشكلون الحاجز الوحيد الذي يحول بين طموحات رواندا وتحقيق هذا الهدف الواضح. لكن لم تبدأ الجهات المانحة إلا الآن في ممارسة الضغوط على رواندا على نحو خجول.
وتقول «فورين بوليسي»، إن الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة زادا من تمويلهما لرواندا أثناء تمرد حركة 23 مارس، ويرجع هذا جزئيا إلى أن رواندا اكتشفت كيفية جعل نفسها مفيدة: فهي أكبر مساهم أفريقي في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وقد نشرت الآلاف من القوات في شمال موزمبيق، حيث تساعد في حماية مشاريع الغاز الكبيرة التي تنفذها الشركات المتعددة الجنسيات الفرنسية والإيطالية.
ولقد عرضت رواندا خدماتها للسماح للدول الأوروبية ــ المملكة المتحدة والدنمارك ــ بنقل طالبي اللجوء إلى رواندا؛ ويبدو أن الاتفاقين قد أُلغيا الآن، لكن فكرة إعفاء اللاجئين من المسؤولية لا تزال جذابة. وفي هذا الأسبوع، عُين ثلاثة من الزعماء الأفارقة السابقين كميسرين لجهود الوساطة الإقليمية، التي توسطت فيها الجماعة الاقتصادية لشرق أفريقيا والجماعة الإنمائية للجنوب الأفريقي.
aXA6IDE4LjIxNy4yMjkuMTA1IA== جزيرة ام اند امز