الاستراتيجية الأمريكية المتبعة مع النظام الإيراني تؤتي ثمارها حتى الآن دون أي تبعات على الجانب الأمريكي.
بعد أشهر من الاستغاثات الإيرانية المغلفة بستار دبلوماسي، تحت يافطة الدور الأوروبي لإنقاذ الاتفاق النووي، ورسائل الابتزاز الإيراني هنا وهناك، أطلق الرئيس الفرنسي مبادرته الدبلوماسية ذات الطابع الاقتصادي في محاولة لنزع فتيل التوتر الناجم عن الضغوط الأمريكية على إيران منذ إعلان ترامب قراره بانسحاب واشنطن من الاتفاق النووي مع طهران.. لكن المبادرة الفرنسية جاءت أحادية التوجه -أي باتجاه إيران- ولا وجود لحديث عن كيفية تعاطيها مع مطالب الطرف الآخر -أي الأمريكي- الذي يُعِد نفسه في حل من جميع الالتزامات السابقة المترتبة على الاتفاق النووي بعد انسحابه الرسمي منه.
ليس من شك في أن الخيارات الإيرانية تتقلص بشكل تدريجي، وتتقلص معها مساراتها وقنوات عملها الدبلوماسي، واليوم بات النظام الإيراني أمام نفسه وأمام الداخل الإيراني أكثر انكشافا وأكثر ارتباكا وهو يواجه ليس العقوبات فحسب، بل يواجه نافذة دبلوماسية فرنسية تقتضي منه حتما تنازلات لمصلحة شعبه
الاستراتيجية الأمريكية المتبعة مع النظام الإيراني تؤتي ثمارها حتى الآن دون أي تبعات على الجانب الأمريكي، ولربما شكّل التصريح الأمريكي باستعداد واشنطن للتفاوض مع حكام إيران عنصرا لا يقل أهمية وفاعلية عن مجمل المواقف السابقة، فهدف ترامب من التفاوض هو صياغة اتفاق جديد يأخذ بعين الاعتبار البرامج النووية الإيرانية العسكرية وطموحاتها بما يضمن عدم تهديدها لدول المنطقة والعالم، علاوة على هدف لا يخرج عن نظرية واشنطن الرامية إلى تقويض ولجم الدور الإيراني المزعزع للاستقرار في عدد من دول المنطقة، فالحديث الأمريكي يتضمن صراحة أن التفاوض لصياغة اتفاق مع إيران سيتناول صناعاتها العسكرية عموما وصواريخها البالستية وكذلك سياساتها وأذرعها وأدواتها كونها تشكل الحوامل الأساسية لتنفيذ مشاريعها.
ليس من شك في أن الموقف الأوروبي عموما، رغم أنه جاء خجولا، والمبادرة الفرنسية بشكل خاص، شجعت طهران على التمادي في سلوكياتها ومواقفها ومنحتها متنفسا لرفع سقف مطالبها؛ إذ التقط النظام الإيراني ذلك وراح يعلن تارة رفع مستوى تخصيب اليورانيوم عن معدلاته السابقة، وتارة أخرى زيادة إنتاج أجهزة الطرد المركزي المستخدمة في إنتاج الوقود النووي، فضلا عن عمليات قرصنة بحرية لناقلة نفط، ورفع راية تحدي العقوبات الاقتصادية عبر إطلاق سفن محملة بالنفط لا تزال إحداها تجوب مياها دولية دون التمكن من الرسو على بر.
على وقع التحديات المتنامية التي يتعرض لها النظام الإيراني، فإن المشهد الأكثر سطوعا هو ذلك التخبط في المواقف وفي النهج السياسي والدبلوماسي الذي تجلى في التناقض الصريح بين الرئاسة الإيرانية ممثلة بالرئيس حسن روحاني وبين الولي الفقيه متمثلا بخامنئي، ولعل هذه الثنائية المتناقضة وأحيانا المتعارضة في نهجها وإدارتها للسياسة الخارجية هي التي تعكس حقيقة وجود مراكز قوى داخل منظومة الحكم الإيراني تبدو للوهلة الأولى وكأن مواقفها ناجمة عن سياسة تبادل الأدوار، في حين أن مرد ذلك عائد إلى ذهنية حكم توظف مرافق الدولة لخدمة أهدافها الضيقة، فروحاني بعد ادعائه رفض الجلوس على طاولة التفاوض مع ترامب، يعلن صراحة أن خامنئي هو الذي يحدد رسم سياسة إيران، وكأن روحاني بذلك يتوجه أولا إلى الداخل الإيراني المتعب والقلق بحيث يرفع المسؤولية عن كاهله كرئيس، ويرسل من ناحية ثانية إشاراته إلى المجتمع الدولي بأن ثمة انفصاما في هيكل الحكم الإيراني.
على مدار عقود من الزمن اتسمت السلوكيات التفاوضية الإيرانية بسياسة النفس الطويل واللعب على موضوع الزمن تخللتها أساليب من المواربة والتناقضات أسعفتها في فترة سابقة في انتزاع الاتفاق مع مجموعة خمس زائد واحد بشأن برنامجها النووي في ظل إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، فهل تفلح طهران في استيلاد أساليب مراوغة وابتزاز معدلة لمواجهة التحديات والصعوبات التي تحاصرها منذ قرار الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي السابق وسريان مفعول العقوبات الاقتصادية عليها؟ وهل يستطيع الرئيس الفرنسي ماكرون تقديم صيغة ترضي واشنطن لتعديل الاتفاق السابق رغم إصرار ترامب على صياغة اتفاق جديد؟
ليس من شك في أن الخيارات الإيرانية تتقلص بشكل تدريجي، وتتقلص معها مساراتها وقنوات عملها الدبلوماسي، واليوم بات النظام الإيراني أمام نفسه وأمام الداخل الإيراني أكثر انكشافا وأكثر ارتباكا وهو يواجه ليس العقوبات فحسب، بل يواجه نافذة دبلوماسية فرنسية تقتضي منه حتما تنازلات لمصلحة شعبه لتتحول إلى مسار دبلوماسي يؤسس لعلاقات متوازنة مع المجتمع الدولي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة