في خطوة غير متوقعة وربما يائسة، قرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الدعوة إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة.
تأتي هذه الخطوة في مواجهة تصاعد قوة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بقيادة مارين لوبان، والتي حققت في الانتخابات الأخيرة للبرلمان الأوروبي نسبة 32% من الأصوات، بينما حصل حزب ماكرون "النهضة" على 15% فقط. يعتبر هذا الفرق الكبير في الأصوات علامة على الأزمة العميقة التي يواجهها ماكرون وحزبه.
يُعتبر قرار ماكرون بالدعوة لانتخابات مبكرة مقامرة كبرى، لا تهدد فقط مستقبله السياسي بل أيضًا استقرار أوروبا. فقد اختار ماكرون التوقيت الذي يعتقد فيه أن بإمكانه تكرار النجاح الذكي لسلفه فرانسوا ميتران، الذي سمح لحكومة جاك شيراك اليمينية بتولي السلطة في لحظة حرجة في أواخر الثمانينيات، واستطاع ميتران فيما بعد أن يظهر كمنقذ للأمة عندما دعمه الناخبون في انتخابات لاحقة.
لكن التاريخ يقدم أمثلة أخرى أقل إيجابية، مثل تحدي إدوارد هيث الفاشل للناخبين في المملكة المتحدة في عام 1974 عندما أطلق حملة لإعادة انتخابه تحت شعار: "من يحكم بريطانيا؟". وفي تلك الحالة، رد الناخبون بأنهم لا يريدون هيث، وتمت إزاحته عن السلطة.
اليوم، يواجه ماكرون سؤالًا مشابهًا: "ماذا تريدون - الاستقرار معي أم الفوضى مع لوبان؟". ومع الوضع الحالي في أوروبا، من المحتمل أن يكون رد فعل العديد من الناخبين الفرنسيين هو تبني الفوضى. قاعدة الدعم لماكرون التكنوقراطي تتلاشى، حيث يصبح الشباب أكثر انقسامًا - يجذبهم اليمين المتطرف أو اليسار المتطرف.
يقود اليسار المتطرف في فرنسا جان لوك ميلينشون، وهو شخصية نارية وغير متوقعة. قد يتحد مع لوبان ليحرم أنصار ماكرون من أي فرصة لتحقيق الأغلبية، مما يمكنه من دفع البلاد نحو الاشتراكية بمجرد أن يصاب الناخبون بخيبة أمل من لوبان.
الفارق الكبير في النظام الفرنسي هو أنه حتى لو تم سحق حزبه في الانتخابات، فلن يُجبر ماكرون على الاستقالة من منصب الرئيس. سيظل في منصبه حتى عام 2027، لكن مع لوبان كرئيسة للوزراء، سيكون أشبه بـ "بطة عرجاء" وليس مجرد "أوزة مطبوخة". نظام لوبان سيكون معاديًا بشدة للسكان المسلمين المتزايدين في فرنسا، ومن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى زيادة في الهجمات الإرهابية.
أثر هذه التغيرات لن يقتصر على فرنسا وحدها، بل سيكون لها تأثير كبير على السياسة العالمية، خاصة الحرب في أوكرانيا. بينما كان ماكرون في البداية مهادنًا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فقد أصبح في الأشهر الستة الماضية مناهضًا للكرملين بشكل متزايد، مستفيدًا من وزن فرنسا بمقعدها في مجلس الأمن الدولي ووضعها النووي. من ناحية أخرى، غالبًا ما عبرت لوبان عن إعجابها بروسيا وديكتاتورها، ومن المحتمل أن تسحب الدعم عن الرئيس الأوكراني زيلينسكي في كييف.
هذا الوضع يجعل من روسيا الفائز الحقيقي بقرار ماكرون الاستثنائي. مع احتمال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في بداية العام المقبل، فإن التوازن السياسي العالمي قد يشهد تحولًا كبيرًا لصالح موسكو. هذا التحول قد يمنح روسيا فرصة أكبر لتعزيز نفوذها الإقليمي والدولي، خاصةً في ظل تصاعد التوترات بين الغرب وروسيا.
قرار ماكرون بالدعوة لانتخابات مبكرة يبدو وكأنه محاولة يائسة لاستعادة السيطرة على المشهد السياسي الفرنسي. لكن العواقب قد تكون وخيمة على الاستقرار الأوروبي والدولي. فالفوضى السياسية في فرنسا قد تؤدي إلى ضعف الموقف الأوروبي الموحد تجاه العديد من القضايا العالمية الملحة، بما في ذلك التغيرات المناخية، والأمن الإقليمي، والأزمة الاقتصادية العالمية.
في هذا السياق، يبدو أن الفائز الحقيقي في كل هذا الاضطراب قد يكون روسيا، التي قد تجد نفسها في موقع قوة غير مسبوق بفضل التحولات السياسية في الغرب. قدرة موسكو على استغلال هذه الفرص قد تعزز من موقفها التفاوضي في القضايا الدولية، وتزيد من تأثيرها على الساحة العالمية.
في النهاية، تظل المقامرة التي اتخذها ماكرون خطوة جريئة ومحفوفة بالمخاطر. فإذا نجح، قد يتمكن من إعادة ترتيب الأوراق السياسية في فرنسا وتعزيز موقفه الداخلي والدولي. لكن إذا فشل، فإن العواقب قد تكون كارثية على الاستقرار السياسي في فرنسا وأوروبا، مما يفتح الباب أمام تصاعد نفوذ القوى المتطرفة وزيادة التوترات الدولية. في هذا المشهد المعقد، يبقى الرابح الحقيقي مجهولًا، ولكن من المؤكد أن روسيا ستظل تراقب عن كثب كل تطور، مستعدة لاستغلال أي فرصة تعزز من نفوذها وقوتها على الساحة العالمية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة