زيارة ماكرون للصين.. خبراء يفكون شيفرة رسائله لطلاب «تشنغدو»
استحوذ خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمام الطلاب الصينيين خلال زيارته بكين على اهتمام خبراء السياسة.
واعتبر الخبراء الفرنسيون أن خطاب ماكرون أمام طلاب جامعة سيتشوان في مدينة تشنغدو الصينية حمل رسائل مبطّنة لكنها محسوبة بدقة، إذ حاول، وفق تقييمهم، مخاطبة بكين بلغة تفهمها دون الوصول إلى حد المواجهة، مع توجيه رسائل موازية إلى الداخل الأوروبي.
ففي زيارة وصفت بأنها من أكثر زياراته حساسية إلى آسيا، حذر ماكرون من "الانقسامات" والجغرافيا السياسية للكتل التي تكرسها الصين وروسيا، مؤكداً أن مستقبل القرن الحادي والعشرين لا يمكن بناؤه في "العزلة".
وأثار الخطاب ردود فعل واسعة، وقرأه متخصصون فرنسيون في الشأن الآسيوي باعتباره محاولة فرنسية دقيقة للموازنة بين النقد والاحترام المتبادل.
ماكرون يتحدث إلى الصين وأوروبا في آن واحد
من جانبه، قال أستاذ العلوم السياسية في جامعة هونغ كونغ المعمدانية وباحث في مركز الأبحاث الفرنسي، جان-بيار كابيستان لـ"العين الإخبارية" إن خطاب ماكرون مليء بالرسائل السياسية، مضيفأً أن ماكرون لم ينتقد الصين مباشرة، بل انتقد فكرة العالم المنقسم إلى كتل. هو يخاطب بكين بلغة تعتبرها أقل عدائية، ويقول لها: تعاونكم مع روسيا قد يعزلكم أكثر".
واعتبر كابيستان أن الرئيس الفرنسي يحاول منذ سنوات الترويج لفكرة "الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية"، وهو ما كرره بطريقة غير مباشرة أمام الطلاب الصينيين حين قال: "الصين كبيرة، لكنها لا تستطيع النجاح في عزلة".
بين التحذير والاحترام
ورأى الباحث أن ماكرون لم يتجاوز الخط الأحمر، بل حاول الجمع بين النقد الناعم، والاحترام المتبادل وإبقاء أبواب التعاون مفتوحة".
وأضاف كابيستان "الرسالة الحقيقية هي أوروبا لا تريد مواجهة، لكنها لن تكون ساذجة أمام تحولات النظام الدولي".
بدوره، قال مدير برنامج الصين لدى مؤسسة الدراسات الاستراتيجية، المتخصص في الجغرافيا السياسية الآسيوية فرنسوا جودمان لـ"العين الإخبارية" إن تركيز ماكرون على الطلاب في الجامعة يحمل رسالة رمزية: "ماكرون يعرف أن الجامعات الصينية اليوم أقل انفتاحاً من الماضي وأن العلوم الإنسانية تحت ضغط سياسي. لذلك أراد أن يذكر بقيمة الحريات الأكاديمية، دون أن يتهم الصين".
وأضاف أن حديث ماكرون عن الحرية والبحث العلمي لم يكن "انتقاداً صريحا"، بل طريقة فرنسية ناعمة لتذكير بكين بأن القوة الفكرية لا تُبنى فقط على التكنولوجيا.
دبلوماسية الباندا
وأشار الخبير في الجغرافيا السياسية الآسيوية فرانسوا جودمان إلى أن زيارة ماكرون حملت أيضا رسائل غير معلنة مرتبطة بما يعرف بـ"دبلوماسية الباندا" التي تعتمدها بكين كأداة رمزية للتقارب أو الفتور في العلاقات.
وقال جودمان إن موافقة الصين على مرافقة ماكرون إلى تشنغدو، وإظهار قدر من الحفاوة غير المعتادة في البروتوكول الصيني، يعد "إشارة دبلوماسية محسوبة من بكين تؤكد رغبتها في إبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع باريس، رغم الخلافات العميقة".
وأضاف الخبير أن الحرب في أوكرانيا حضرت بقوة في خلفية الزيارة، إذ تحاول فرنسا اكتشاف "الهامش الحقيقي" الذي قد تسمح به الصين لدفع موسكو نحو تسوية، دون أن تبدو وكأنها تتنازل للغرب.
وقال: "الصين لن تضغط علنًا على روسيا، لكنها تُدرك أن استمرار الحرب يضرّ بصورتها كقوة مسؤولة، ويؤثر على علاقاتها الاقتصادية مع أوروبا. وماكرون يحاول استخدام هذه الحساسية لإقناع بكين بأن الاستقرار يخدمها أكثر من الاصطفاف الكامل".
وأضاف جودمان أن ماكرون يدرك أن الصين تستخدم ملف الحرب لتمرير رسائل للغرب مفادها أنها ليست طرفًا تابعًا لروسيا، وإنما قوة مستقلة تقرر وفق مصالحها.
وأوضح: "من خلال الجمع بين دبلوماسية الرموز، مثل حضور قيادات صينية رفيعة لاستقباله وبين الحزم الاقتصادي والسياسي، أراد ماكرون أن يذكّر بكين بأن باريس تحترم مكانتها، لكنها لن تتبنى رؤيتها للعالم".
لا عداء.. تفاوض على علاقة تجارية متزنة
وأشار جودمان إلى أن الجزء الاقتصادي من زيارة ماكرون هو الأكثر أهمية، فالعجز التجاري الأوروبي يقترب من 300 مليار يورو، وأسواق أوروبية باتت "مكتظة بالواردات الصينية"، ورغبة أوروبية في تحقيق توازن عبر استثمارات مشتركة وتقاسم تكنولوجي.
وقال جودمان إن ماكرون لا يريد صداماً تجارياً مع الصين، بل يريد إعادة صياغة العلاقة بحيث تصبح أكثر توازناً، دون المساس بما تعتبره بكين خطوطاً حمراء".
وأشار جودمان إلى أن ماكرون كان واضحاً أنه يشير إلى سياسة "الكتلتين" التي يرى أن الصين وروسيا تعملان على تعميقها من خلال خطاب "الجنوب العالمي ضد الغرب".
وقال الرئيس الفرنسي "بقدر ما الصين دولة عظيمة، لا يمكن أن تنجح في القرن الحادي والعشرين وهي في عزلة".
واعتبر الخبير الفرنسي أن تصريحات ماكرون تحمل معنيين الأول، رسالة لبكين بأن الشراكات الواسعة مفيدة لها والثانية رسالة للغرب بأن فرنسا لا تؤمن بسياسة الاحتواء الأمريكي للصين.
وأضاف؛ ماكرون أراد أن يؤكد على أن "من يقول إن أوروبا متعالية وتحتقر الجنوب، فهو يروج لأساطير، معتبراً أنه يقاوم السرديات الصينية والروسية التي تعتمد على كسب دول الجنوب".