"محمود علي البنا.. صوت لا يغيب".. سيرة عملاق "دولة التلاوة" في مصر
الشيخ محمود علي البنا يعدّ واحداً من أساطير التلاوة في مصر، عاش نصف قرن من حياته مع القرآن الكريم، فشكّل كتاب الله شخصيته.
أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب، مؤخراً، كتاباً جديداً عن القارئ الشيخ محمود علي البنا، من تأليف ابنته الكاتبة الصحفية آمال البنا، تحت عنوان "محمود علي البنا .. صوت لا يغيب".
والشيخ محمود علي البنا واحد من أساطير التلاوة في مصر، عاش نصف قرن من حياته مع القرآن الكريم، فشكّل القرآن شخصيته وأكسبه القيم والأخلاق.
وسرعان ما ذاعت شهرة البنا بعد التحاقه بالإذاعة المصرية، إذ امتدت إلى العالم العربي والإسلامي، فاحتل باجتهاده مكانته بين عمالقة التلاوة وهو أصغرهم عمراً.
ونال عن أدائه المتفرد كثيراً من الجوائز والأوسمة وشهادات التقدير في مصر، وكذلك في دول عربية وإسلامية سجّل بها المصحف مرتّلاً ومُجوّداً بالكامل.
وبدأت الابنة كتابها عن والدها بمقدمة لنقيب القراء الأسبق، الشيخ أبوالعينين شعيشع، قال فيها: "لقد قبض الله تعالى رجالاً أفذاذاً أفنوا حياتهم في خدمة القرآن الكريم وتلاوته وتجويده على مر العصور والأجيال، من هؤلاء العظام، كان الشيخ محمود علي البنا، ذلك الرجل الذي نذر نفسه ووقته لخدمة القرآن وتلاوته".
وأضاف: "كان قارئاً مميزاً في تلاوة القرآن، وكانت تلاوته تأخذ في قلب المستمع عمقاً ونسقاً غير مألوف، يجعله يتفاعل مع التلاوة، وكان من خيرة القراء الذين أوصلوا القرآن بأصواتهم إلى أرجاء المعمورة".
واستعرضت الابنة نشأة وحياة الشيخ محمود علي البنا منذ مولده في 17 ديسمبر/كانون الأول عام 1926، في قرية "شبرا باص" - مركز شبين الكوم بمحافظة المنوفية، حيث كان الابن الأول في أسرته، ونذره والده للقرآن منذ مولده، وألحقه بكتّاب قريته، وهو في سن الـ5 كي يتعلم كلام الله.
وأتم البنا حفظ القرآن كاملاً في عمر 10 سنوات، ثم التحق بعدها بمعهد المنشاوي في مدينة طنطا، ليتعلم علوم الفرقان.
وجاء إلى القاهرة سنة 1946، وعمره 18 عاماً، كي ينال إجازة تجويد القرآن من الأزهر الشريف، إذ عكف على دراسة المقامات الموسيقية والتواشيح مع الشيخ درويش الحريري.
وبعد فوز البنا بالجائزة الأولى في حفظ القرآن ضمن مسابقة جمعية الشبان المسلمين عام 1947، عيَّنه صالح باشا حرب، رئيس المجلس الأعلى للجمعية، قارئاً لها.
وعندما استمع إليه كبار مسؤولي الإذاعة في إحدى حفلات الجمعية، رشّحوه للالتحاق بالإذاعة المصرية في نوفمبر/تشرين الثاني، عام 1948.
وأمام لجنة القراءة اجتاز عدة اختبارات بجدارة، فأجازته اللجنة قارئاً للإذاعة، ليصبح بذلك أصغر قراء الإذاعة المصرية سناً.
وتستعرض الكاتبة الصحفية آمال البنا في الكتاب حياة والدها وزواجه في القاهرة، وإنجابه 7 من البنين والبنات.
وفي أواخر الأربعينيات، عُيِّن الشيخ محمود علي البنا قارئاً بمسجد الملك، ثم بمسجد الإمام الرفاعي في أواخر الخمسينيات، وبعد ذلك انتقل إلى طنطا للعمل في المسجد الأحمدي قبل أن ينتقل إلى مسجد الإمام الحسين بالقاهرة سنة 1980، حيث مكث حتى وافته المنية.
قارئ العصر الذهبي
وحسب ما ورد في الكتاب، فقد شهدت ستينيات القرن الـ20 ذيوعاً وانتشاراً كبيراً لشهرة الشيخ البنا، خصوصاً بعد ظهور التليفزيون في مصر، إذ انضم إلى كوكبة من قراء الشاشة الصغيرة، وبات نجماً من نجوم التلاوة في عصره، وعلماً من أعلام قرّاء مصر في زمن شاشة الأبيض والأسود.
وجاء أول ظهور للبنا في التلفزيون في مطلع الستينيات، وتحديداً منتصف شهر أغسطس/آب عام 1960م، متزامنًا مع بداية البث التلفزيوني في مصر، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يتعرف فيها جمهوره الإذاعي على هيئته وملامحه، من خلال صورته على الشاشة الصغيرة.
وتشير الكاتبة إلى أن الشيخ البنا استطاع أن يتجاوز بشهرته حدود وطنه مصر إلى البلاد العربية والإسلامية والأوروبية، وذلك من خلال بعثات وزارة الأوقاف المصرية، التي كانت ترسل فيها الأئمة والوعاظ والقراء ورجال الدين الإسلامي إلى أنحاء البلاد العربية والإسلامية، والجاليات الإسلامية في البلاد الأجنبية في مشارق الأرض ومغاربها، لإحياء ليالي شهر رمضان سنوياً.
وأراد الله تعالى أن يفتح للشيخ البنا بأسفاره نوافذ جديدة للمعرفة، اكتسب منها ثقافة مخالطة تلك الشعوب ومعايشة حياتهم في البلاد العربية والإسلامية، وبلاد جنوب شرق آسيا في تايلاند وماليزيا وسنغافورة والهند وباكستان.
وفي أوروبا سافر البنا إلى ألمانيا والنمسا، كما أتيحت أمامه فرصة تلاوة القرآن في المسجد الأموي بسوريا.
وانتهز فرصة زيارته إلى الأردن ليقوم بزيارة دولة فلسطين في منتصف الستينيات، وهناك دُعي إلى التلاوة في المسجد الأقصى، وكانت فرصة تاريخية نادرة، لم تتكرّر بعد.
ومن أبرز ذكريات السفر وأقدسها في حياة الشيخ البنا في المملكة العربية السعودية، حيث أكرمه الله بتلاوة القرآن بالمسجد الحرام والمسجد النبوي، في ليالي رمضان والحج .
إنشاد قصيدة للسيدة أم كلثوم
وروت الكاتبة أن حب الشيخ البنا لأصدقائه كان يجعل علاقته تمتد بعد رحليهم إلى أبنائهم، وكان من بينهم الضابط عبدالوهاب إبراهيم، إذ قالت ابنته عن صداقة كانت بين الشيخ البنا ووالدها، وإن البنا كان يتمتع بحس فني عال، لأنه دارس للمقامات الموسيقية، وله قدرة رائعة على غناء القصائد.
وجاء في روايتها: "شهد بيتنا في مناسبات كثيرة، وتجمعات لأصدقاء والدي من الشخصيات العامة والمشاهير، في جلسات ودية، وكان من بينهم الشيخ البنا، واعتادوا في مثل هذه اللقاءات أن يتجاذبوا أطراف الحديث حول قضايا عصرهم، وكان والدي مغرماً بالغناء، ويحرص على اقتناء أسطوانات أم كلثوم وعبدالوهاب، ليستمتع بسماعها مع أصدقائه".
وأضافت: "ذات مرة كنت منشغلة مع أمي ونساء البيت في إعداد مائدة العشاء للضيوف، وعلت أصوات الضيوف، محاولين إقناع الشيخ البنا أن يشدو لهم بإحدى قصائد أم كلثوم، ليستمتعوا بصوته في أداء مختلف عن أدائه في تلاوة القرآن، وبعد إلحاح استجاب الشيخ البنا لمطلبهم، ووصل إلى مسامعنا صوت البنا يشدو بإحدى قصائد أم كلثوم، فتركنا ما يشغلنا وأسرعنا نسترق السمع خلف الأبواب في صمت".
رحلته الأخيرة إلى أبوظبي
في الـ7 من يوليو/تموز 1985، عاد الشيخ البنا من رحلته الأخيرة في العاصمة الإماراتية أبوظبي، بعد انقضاء شهر رمضان، وكان الشيخ في حالة صحية غير مطمئنة، وبدا الإرهاق الشديد عليه، وفقد بعضاً من وزنه، وأصابه بعض الضعف والوهن.
وفي حجرته، أخرج الشيخ البنا من حقيبته مظروفاً كبيراً مطبوع عليه اسم أحد المستشفيات في أبوظبي، وكان بداخله أوراق طبية تكشف عن الحالة الصحية الحرجة التي يمر بها.
ويحتوي الكتاب على فصل كامل من أبرز الصور في حياة البنا مع الرؤساء والملوك، وأهم التكريمات في حياته، والجوائز التي حصل عليها، وفي نهاية الكتاب فصل أخير تحت عنوان "قالوا عن الشيخ محمود علي البنا"، وكان من أبرزهم الشيخ محمد متولي الشعراوي، حيث قال: " كان الشيخ البنا من أوفى أصدقائي وأقربهم إلى قلبي، أخ لم تلده أمي، وإنسان يتحلى بأجمل معاني الإنسانية".
في حين ذكر الشاعر أحمد فؤاد نجم: "الشيخ البنا يعدّ من القامات العالية في دولة التلاوة، نجح في أن يسطع بين عمالقة عصره ويكتب اسمه بينهم بحروف من نور في سن صغيرة، فكان واحداً ممن زخرفوا القرآن بأصواتهم الجميلة، وحفر اسمه في ذاكراتنا حتى الآن، وكم استمتعت بتلاوته في صلاة الفجر في مسجد الحسين".
أما الكاتب الصحفي الراحل محمود السعدني، فقال: "فقدت دولة التلاوة برحيل الشيخ البنا صوتاً من أجمل وأعذب الأصوات التي عرفتها وقلّما يتكرر".
وترك الشيخ البنا كثيراً من التسجيلات الإذاعية المصرية، منها المصحف المُرتّل، الذي سجل سنة 1967م، والمصحف المُجوّد، إضافة إلى عدد من التلاوات المُرتّلة التي سُجِّلت بإذاعات المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
وانتقل الشيخ محمود علي البنا إلى جوار ربه في 20 يوليو/تموز 1985م، ودُفِن جثمانه بمقبرة مسجد قرية "شبرا باص" مسقط رأسه.
aXA6IDE4LjIyNC41NS42MyA= جزيرة ام اند امز