مارتن لوثر كينج .. المقاوم المسالم "صاحب الحلم" والعيد الوطني
عاش مارتن لوثر كينج من أجل تحقيق حلمه بإلغاء العنصرية وضمان الحقوق المدنية، ومات دفاعا عنها، حيث لم يكن التخلص من العنصرية أمرا سهلا.
أجيال متوالية عاشت في ظلام سيطرة الرجل الأبيض على أرض ليست من حقه، يفرض نظامه ويُغني نفسه ويذلل الآخرين لتحقيق رغباته، لكن حلم مارتن لوثر كينج كان أكبر إنجازات الانتصار للإنسانية وتحقيق العدل بالسلام.
من هو مارتن لوثر كينج؟
تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية مع العنصرية ضد أصحاب البشرة السوداء أو كل من هو ليس "أبيض"، عميق وممتد على منذ قرون مضت، والنضال لتحقيق حقوق إنسانية أصيلة استهلك سنوات وحصد أرواح الآلاف، من بينهم مارتن لوثر كينج الابن.
في أسرة مسيحية متدينة تعيش في أتلانتا بولاية جورجيا، ولد مارتن لوثر كينج باسم مايكل كينج جونيور في 15 يناير 1925، الابن الأوسط لوالده القسيس مايكل كينج الأب ووالدته ألبرتا ويليامز كينج التي كانت تعمل مدرسة، وأخواته كريستين كينج الأكبر منه وألفريد دانيال كينج الأصغر منه.
بعد أن أنهى دراسته في المدارس العامة، وبعد أن أثبت تفوقه التحق بكلية مورهاوس ودرس الآداب، وتخرج فيها عام 1948، وكان قد التقى بالدكتور بنجامين ميس، وهو عالم لاهوت ومدافع عن المساواة العريقة، فقرر أن يدرس اللاهوت، فذهب إلى بنسلفانيا ليلتحق بمدرسة كروزر اللاهوتية، وحصل على درجة البكالوريوس، ثم أكمل برنامج الدراسات العليا في جامعة بوسطن، وحصل على الدكتوراة في علم اللاهوت النظامي عام 1955.
التقى بزوجته كوريتا سكوت في بوسطن عام 1953، وكانت مغنية تدرس في معهد نيو إنجلاند للموسيقى، واستقرا معا في مونتجمري بولاية ألاباما، حيث صار راعيا لكنيسة دكستر أفينيو المعمدانية، وأنجبا 4 أبناء، هم: يولاندا دينيس كينج، ومارتن لوثر كينج الثالث، ودكستر سكوت كينجوبيرنيس ألبرتين كينج.
تربية متشددة
والد لوثر كينج كان قسيسا وراعي كنيسة إبنيرز المعمدانية، واستطاع عبر عظاته أن يزيد من أعداد الحضور إلى الآلاف بعد أن كانوا لا يتخطوا الـ 600، وغيّر اسمه من مايكل كينج إلى مارتن لوثر كينج بعد زيارته لألمانيا- ضمن جولة ضمت مصر وفلسطين وإيطاليا عام 1934- وإطلاعه على مسيرة الراهب الألماني مارتن لوثر (1483- 1546) باعتباره مُطلق الإصلاح في أوروبا.
فرض على أولاده قراءة الإنجيل بصوت عالي في المنزل، كما كان شديد التعنيف على الأخطاء، ويتجه للجَلد من أجل تأديبهم، أو يضطر الأبناء إلى جَلد بعضهم بعض، كما كان له مواقف حاسمة في مواجهة العنصرية، وقاد مارتن لوثر كينج الأب مسيرة من مئات الأمريكيين من أصل إفريقي في أتلانتا للاحتجاج على التمييز ضد الحق في التصويت.
ملامح طفولة مارتن لوثر كينج
تأثر مارتن لوثر كينج الابن بوالده، فكان يراه أبا عظيما، ويتبع في تعاليم الكنيسة المعمدانية وينصت باهتمام لقصص الكتاب المقدس التي تحكيها جدته لأمه جيني، كما كانت هناك ملامح من طفولته تشير إلى نبله وخشيته من الخطأ، نذكر منها:
- عندما كان والده يعنفه، كان يذرف دموعه بانهمار دون صوت، كأنه يخفي شعوره بالخزي من نفسه.
- في إحدى المرات كان يلعب مع أخيه الأصغر الذي اصطدم بالجدة جيني، فسقطت مغشيا عليها، فأقدم على الانتحار لشعوره بالذنب، ولم يتراجع إلا بعد أن تأكد أنها ما زالت على قيد الحياة.
- حاول الانتحار مرة ثانية، عندما أخفى عن والديه تهربه من الدراسة والذهاب لعرض عسكري، ويفجع بوفاة جدته بعد عودته للمنزل، وشعر أن الله يعاقبه لكذبه.
- حفظ آيات الكتاب المقدس، وهو ما زال في الخامسة من عمره.
- اشترك في جوقة الكنيسة، وحفظ الأغاني والتراتيل.
- في جوقة كنيسته في أثناء تقديم عرض فيلم "ذهب مع الريح"، ارتدى زي العبيد أمام جمهور أبيض البشرة، كطريقة للاحتجاج.
مواقف عنصرية لم ينساها
منذ طفولته، لم تخل حياته اليومية من مواقف اتسمت بالكراهية والتعصب ورفض الآخر، لم يتمكن أن يمحها من ذاكرته، وتمنى أن يغيرها، مواقف واجهها بنفسه وأخرى عاشها مع والده، منها:
- كان يحب مارتن لوثر كينج الابن أن يلعب مع أصدقائه، ولكنه وجد أمهاتهم تمنعهم من اللعب معه، دون أن يفهم لماذا؟
- لاحظ وجود مدارس تفصل الأطفال البيض وحدهم وأخرى للأطفال من أصول أخرى، وعندما كان يحاول اللعب مع طفل أبيض، نهره والد الطفل "نحن بيض البشرة، أما أنت فملّون".
- سمع ضابط الشرطة وهو يحاول أن يحقر من والده- في إحدى المرات- ويقول عنه "الصبي"، فصحح له والده "أنا رجل، مارتن هو الصبي".
- رفض والده أن يشتري من أحد متاجر الأحذية، بعد أن طلب منه الموظف الجلوس في الخلف.
بداية القضية
عندما استقر لوثر كينج في مونتجمري، بدأ نشاطه من خلال منصبه كراعي لكنيسة دكستر أفينيو المعمدانية، وساهم في الفعاليات العامة كناشط للحقوق المدنية ورافضا للعنصرية ضد عرقه، ثم أصبح عضوا في اللجنة التنفيذية للجمعية الوطنية لتقدم الملونين، واستمر نشاطه في وتيرته العادية حتى حادث الحافلة.
في الأول من ديسمبر عام 1955، استقلت الناشطة من أصول إفريقية روزا باركس الحافلة- كالعادة- وجلست في مكانها، ولكنها فوجئت بالسائق يخبرها أن تتنازل عنه لصالح شخص أبيض، وهو ما رفضته بكل ما تملك من عزيمة، فاعتقلتها الشرطة لعدة أشهر، فهاجت شوارع مونتجمري بالرفض وتصدرت قضية التمييز العنصري في الولايات المتحدة.
كيف حارب لوثر كينج العنصرية بالسلام؟
عندما واجه الظلم والعنصرية في طفولته، أعلن أنه "مصمم على كره كل شخص أبيض"، ولكن أخبره والداه أن واجبه المسيحي يمنعه عن كره أحد وأن يحب الجميع، ولم يعدل مارتن لوثر كينج عن فكرته سوى مع التحاقه بالجامعة، عندما أطلع على كتابات المفكر والشاعر الأمريكي ديفيد ثورو المتعلقة بالعصيان المدني، كما قرأ عن سيرة الزعيم الهندي المهاتما غاندي.
اعتبر أن العصيان المدني هو أحد أسلحة التغيير، وأن المقاومة السلمية واتباع مبدأ اللا عنف يمكنه أن يحقق المساواة، وفور وقوع حادث روزا باركس، دعى الجميع بالتخلي عن العنف، وقاد مظاهرة سلمية تضم الأمريكيين من أصل إفريقي، ثم اقترح مقاطعة شركة الحافلات، التي كان أصحاب البشرة السوداء يمثلون 70% من إيراداتها.
استمرت مقاطعة الحافلات 381 يوما، حتى قضت المحكمة العليا بعدم دستورية المقاعد المنفصلة في الحافلات العامة في نوفمبر 1956، وانتصرت روزار باركس واكتسب الأمريكيون من أصل إفريقي ثقة في أن غدا قد يحمل معه المساواة.
ترصد "لوثر كينج"
تزعم مارتن لوثر كينج الاحتجاج وصار المتحدث الرسمي الذي يقود الآلاف في مواجهة التمييز، ولكن ترصدته السلطات وأصحاب البشرة البيضاء، ولاحقوه بكثير من الأذى والعنف، وأصبح هدفا لهم، وقاموا بـ:
- القبض عليه بإدعاء قيامه بتعدي السرعة المسموح بها في أحد الأماكن، وظل محبوسا لعدة أيام مع السكارى واللصوص.
- إلقاء مفرعقات على منزله، كانت ستفقده زوجته وابنه، مماجعل كثيرون رغبون في الانتقام، ولكن لوتن رفض فضل السلام والمقاومة السلمية.
- القبض عليه مع عدد من قادة المجتمع المناهص للعنصرية، بدعوى إعاقتهم للعمل دون دافع قانوني، وذلك بسبب حملتهم لمقاطعة الحافلات.
- تعرض منزله للنسف بالديناميت على أيدي عدد من البيض المتعصبين.
- عام 1958، تعرض لمحاولة اغتيال على يد إيزولا كاري الأمريكية من أصل إفريقي، في أثناء توقعيه كتاب "خطوة نحو الحرية" في قاعة هارلم بنيويورك، سددت طعنة لصدره بشفرة حلاقة، ولكن تم إنقاذه بإجراء عملية جراحية دقيقة.
إنجازات مارتن لوثر كينج الابن
مع إيمانه بالمقاومة السلمية واللا عنف وتبني نهج إصلاحي، استطاع كينج أن يُحدث إنجازات في مسار مناهضة التمييز والتخلص من العنصرية، وكان أهم ما حققه:
- تنظيم مؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية لنشر ثقافة اللاعنف واتباع العصيان المدني منهاجا لنيل الحقوق.
- وجه خطابا من أمام نصب لينكولن التذكاري في مايو 1957 في مسيرة "الحج من أجل الحرية"، ينتقد الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وردد "أعطونا حق الانتخاب"، ونجح في تسجيل 5 ملايين أمريكي من أصل إفريقي في سجلات الناخبين.
- زار الهند عام 1959، ليقترب من مفاهيم الاعتراض السلمي ويتعلم من تجربة غاندي.
- كان أصغر شخص يحصل على ميدالية "سينجارن" التي يتم منحها للأشخاص المساهمين في مواجهة العنصرية,
- بدأ سلسلة من التظاهرات السلمية في برمنجهام لإحراج الحكومة، فصدر حكم قضائي يمنع كل أشكال الاحتجاج، وعندما تصدى للحكم، تعرض للحبس ثم خرج بكفالة.
- أجبر السكان البيض في برمنجهام على التفاوض، والعمل على تنفيذ برنامج هدفه إلغاء التفرقة وإقامة نظام عادل والإفراج عن المتظاهرين.
خطاب "لدي حلم"
ضمن نشاطاته السلمية لتحقيق المساواة، نظم مارتن لوثر كينج تظاهرة سلمية في 28 أغسطس عام 1963، اتجهت إلى نصب لينكولن التذكاري في العاصمة واشنطن، وشارك بها ما يقرب من 250 ألف شخص، للمطالبة بوضع حد للتمييز العنصري وتحقيق العدالة بتنفيذ الحقوق المدنية والاقتصادية.
كانت التظاهرة يوما فاصلا في التاريخ الإنساني الباحث عن المساواة،، وشهدت خطابه الأشهر "لدي حلم"، الذي يعد الأكثر بلاغة في التاريخ، ويقول في أجزاء منه:
"لقد جئنا هنا اليوم لنعبر عن حالتنا المريعة، جئنا لعاصمة وطننا لنصرف الصك ورثنا إياه بناة جمهورياتنا عبر الكلمات الرائعة للدستور وإعلان الاستقلال".
"جئنا لصرف هذا الصك، الصك الذي يعطينا ثروة الحرية وضمانات العدالة، جئنا لهذه البقعة المقدسة لتذكير أمريكا بحالة التطاحن التي نعيشها الآن.. لقد حان الوقت لنرتفع من عزلة الوادي المظلم المهجور إلى طريق العدالة المشمس".
"لدي حلم أن أطفالي الأربعة سوف يعيشون يوما في دولة لن تعاملهم بلون جلدهم لكن بشخصياتهم.. لدي اليوم حلم".
مارتن لوثر كينج يحصد نوبل للسلام
استطاع مارت لوثر كينج الابن أن يغير الدفة من العنف دون نتائج إلى السلام الذي حقق المساواة، ففي عام 1964، أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية قانون الحقوق المدنية، الذي يفرض إلغاء الفصل العنصري في الأماكن العامة وتجريم التمييز، ومنحته مجلة تايم لقب "رجل العام" ليكون أول شخص من أصل إفريقي ينال هذا اللقب.
وبعمر 35 عاما، تم منح مارتن لوثر كينج جائزة نوبل للسلام في 13 أكتوبر 1964، وقال في خطاب تلقي الجائزة "أقبل هذه الجائزة اليوم بإيمان راسخ بأمريكا، وإيمان جرئ بمستقبل البشرية"، وكان حينها أصغر شخص يتلقى الجائزة، التي تبرع بها لتعزيز حركة الحقوق المدنية.
كيف مات مارتن لوثر كينج؟
لم يكن سهلا على اليمين المتطرف أن يقبل بإلغاء العنصرية، ووضع كثير منهم مارتن لوثر كينج الابن هدفا له، بعد إنجازاته المتوالية، وعلى رأسهم إدجار هوفر مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، الذي كان ينتصت عليه ويحاول تجنيد عملاء للاطلاع على أسراره.
لم يلتفت كينج لما يُشاع، واستكمل خطاه بثقة نحو الحقوق المدنية للجميع، وفي عام 1968 قرر الذهاب إلى مدينة ممفيس لتأييد إضراب جامعي النفايات وحقوقهم، وبدأت الشكوك حول هذه الرحلة منذ صعوده للطائرة، التي أشيع أن بها قنبلة، وبعد التفتيش تبين عدم صحة ذلك، وطار بها كينج نحو واشنطن، ويحجز غرفته في فندق لورن.
على الجانب الآخر، كان شاب أبيض هارب من الحكم بـ 20 سنة يُدعى جيمس إرل راي يشتري بندقية بمنظار تلسكوبي، ويختار غرفة قريبة من كينج بنفس الفندق، وفي يوم 4 أبريل عام 1968، يصوب جيمس بندقيته نحو حنجرة كينج، الذي يلقى مصرعه على الفور.
جنازة صاحب الحلم وداعى السلام
تم القبض على جيمس، الذي ترك أداة الجريمة وبطاقته الشخصية واعترف بالقتل فور القبض عليه، وتم الحكم عليه بالسجن 99 عاما. لكن الشارع الأمريكي لم يهدأ، فرّ الجموع إلى الشوارع في حالة من الغضب والرفض، ووقعت الاشتباكات والحرائق في واشنطن وبوسطن وشيكاغو، وأصدرت زوجته كوريتا سكوت بيانا تطالب فيه بالتوقف عن العنف احتراما لدعوة كينج السلمية.
وبعد أيام، تم تشييع جنازته في 9 أبريل 1968، وكانت جنازة جماهيرية في موطنه الأصلي في أتلانتا، وحضرتها جاكلين كينيدي، كما تم تأجيل افتتاح دوري كرة السلة في الولايات المتحدة الأمريكية، ويوقع الرئيس الأمريكي- حينها- ليندون جونسون قانون الحقوق المدنية لتحقيق العدل والمساواة للجميع باختلاف الأعراق ةالألوان والأجناس على مستوى أمريكا.
يوم "لوثر كينج" الوطني
وتقديرا لمجهوداته ورسالته في وطن عادل للجميع، أعلن الكونجرس الأمريكي عام 1994 عن تخصيص يوم الإثنين الثالث من شهر يناير في كل عام ليكون "يوم مارتن لوثر كينج"، ويتم منح سكان الولايات المتحدة عطلة في هذا اليوم، الذي يعد فرصة للتذكير بالإنجازات ونشر المحبة.
aXA6IDE4LjIxNi4yNTAuMTQzIA==
جزيرة ام اند امز