"رحم الله النبَّاش" قاعدة سياسية تاريخية لا ترحم أحداً، ولا تجامل أحداً، ولا يقف في طريقها أحد، تنطبق على كل نظام كان أسوأ من سابقه.
في قرية فقيرة نائية، ناسها كثيرون، ورزقهم قليل، ضاقت بهم الأرض، فلا زرع يكفي، ولا ضرع يروي، وشحت السماء بمائها، وانحسر النهر، فلم يجد الكثير من أبنائها مصدرا للرزق فيها، فمنهم من هاجر إلى ديار بعيدة، ومنهم من ضاع عمره وراء دفائن الأجداد، نبشاً لقبورهم؛ لعله يجد من آثارهم شيئا يبيعه للغرباء بأموال كثيرة، فيحقق حلم الثراء الخيالي؛ ويمتلك العمارات، ويركب السيارات الفارهة؛ ذلك الحلم الذي زرعته المسلسلات والبرامج التلفزيونية، الذي حققه غيره من أبناء حواري المدن وأزقتها من فهلوية عصر الانفتاح وشُطاره، أو حققه فنانو المهرجانات من "المكوجية" وسائقي المايكروباس، ومنهم من باع دينه لأناس جاءوا بأزياء غريبة من وراء البحر، ومنهم من قتل الليل والنهار يسبح في دخان الحشيش الأزرق يحلم بما لم يستطع تحقيقه في الواقع …ومنهم….ومنهم…. إلا شخص واحد احترف مهنة غريبة عجيبة، إذ كان رزقه على الموتى، ليس لأنه يعمل حانوتيا يغسِّل الموتى، ويكفنهم، ويدفنهم، ولكن كان يفعل العكس، فقد كان ينبش القبور، ويخرج الموتى من بعد دفنهم، ويأخذ أكفانهم، وأي شيء ثمين قد دُفن معهم، ثم يعيد دفنهم عراة كما ولدتهم أمهاتهم، لذلك أطلق عليه أهل تلك القرية اسم "النبَّاش".
وكان للنبَّاش ابن يحب أباه، ويراه أحسن أب؛ لأنه كان يشتري له كل ما يحب، وكان يغضب جدا لأن أهل قريته يسخرون من أبيه، وينعتونه بأبشع الألفاظ، ويحتقرونه، بل ويتقززون منه، فنشأ الطفل المسكين ناقما على أهل قريته، متوعداً لهم بالانتقام الشديد، بل إنه أقسم أن يجعل هذه القرية وأهلها يترحمون على أبيه بعد موته، وظل وفيا لقسمه، يُعد نفسه للمهمة المقدسة، التي يتمكن من خلالها من تأديب هذه القرية وأهلها، ويجبرهم على أن يترحموا على أبيه، ويتمنون عودته من قبره.
وما أن مات أبوه، واستراحت القرية من شروره، وتنفست الصعداء لتخلصها من هذا الوحش الآدمي الذي لا يراعي حرمة الأعزاء الراحلين، وينبش قبورهم، ويجرح قلوب أهلهم وأحباءهم، مات النبَّاش، وظن أهل القرية أنهم قد تخلصوا من كابوس قاس يخنق النفوس، ولم يلتفت أحد إلى ابنه، الذي أقسم أن يجعل القرية تترحم على أبيه، وتبكيه، وتتمنى رجوعه، وعودة أيامه، رغم قسوتها؛ لأن ما بعدها سيكون أقسى، وأبشع.
وبعد موت النبَّاش بشهور قليلة مات أحد وجهاء القرية، وفي اليوم التالي لوفاته، وجدوه عاريا على خازوق بجوار قبره، مجرداً من الكفن، كما ولدته أمه، وللأسف نهشت النسور، والذئاب من جسده، صُدمت القرية المنكوبة صدمة هائلةً، لقد ظهر نبَّاش جديد أكثر قسوة وشراسة بمئات المرات من سابقه، وأخد أهل القرية، بدون اتفاق يرددون "رحم الله النبَّاش"؛ فقد كان أطيب من هذا الشيطان، كان يستر الميت، ولا يفضحه، كان يسرق كل ما في قبره، ولكن يستر الجثمان، ولا يتركه في العراء للذئاب والنسور، رحم الله النبَّاش الذي كان يراعي حرمة الميت رغم أنه يسرق كفنه.
بعد عشر سنين من الخريف العربي البائس المشؤوم؛ الذي صاحبته عواصف قاسية أدت إلى سقوط دول ومجتمعات وعلاقات وأسر وحياة ملايين العرب؛ بسبب شدة رياحه الزمهرير الباردة القاسية التي فاقمت من قسوتها موجات شديدة من دول الشمال والغرب؛ التي كانت تخطط منذ زمن لتفكيك دول وتدمير مجتمعات وإعادة رسم خرائط عالم العرب من أقصاه إلى أقصاه.
بعد عشر سنين كاملة تصرخ مجتمعات عربية كثيرة "رحم الله النبَّاش"؛ في ليبيا واليمن وتونس وسوريا والعراق يترحم الكثيرون على أيام السابقين الذين كانوا يوفرون درجة أفضل بكثير من الطعام والأمن الإنساني الذي يحتاجه الإنسان لينام ليله مطمئنا على أولاده.
رحم الله النبَّاش، فقد رأينا بعده من وضع الشعب على الخازوق، "رحم الله النبَّاش" قاعدة سياسية تاريخية لا ترحم أحداً، ولا تجامل أحداً، ولا يقف في طريقها أحد، تنطبق على كل نظام كان أسوأ من سابقه، بغض النظر عن مبرراته وشعاراته، وما يتدثر به من مسوح الرهبان وعمائم اللصوص والعيارين.
لم تفلح شعارات الديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات - التي تم توظيفها في إسقاط دولة النبَّاش – في أن تخفي حقيقة أن من ورث النبَّاش وضع الشعب كل الشعب ماعدا العصابة الحاكمة على الخازوق، وكان ابناً مخلصاً للنبَّاش. فقد أدركت الشعوب بفطنتها أنها وقعت ضحية لخديعة الشعارات البراقة التي جاءت بأحزاب وجماعات من أبناء النبَّاش المخلصين لأبيهم، الذين دفعوا الشعوب دفعا لأن تترحم على الماضي القريب الذي كان في جوهره تعيساً لأنها انتقلت إلى الأتعس منه.
ولعل المتابع لا يستغرب أن الدول التي شاركت في إسقاط نظام القذافي في ليبيا توظف تركيا لمنع وصول أنصار القذافي للحكم في ليبيا مرة أخرى، وفي نفس السياق نجد الحزب الذي يقود الحركة الوطنية في تونس هو حزب الحبيب بورقيبة وتلميذه زين العابدين بن علي، وليس غريبا أيضا أن يسعى شعب السودان الحر الأبي إلى العودة ثلاثين سنة إلى الوراء لما قبل عصور أبناء النبَّاش، وكذلك العراق يتمنى أن يعود إلى العصر الملكي. كل يترحم على النبَّاش بطريقته.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة