الصوم في اللغة يعني الإمساك مطلقاً، عن الكلام أو عن الفعل، كما قال النابغة: خيلٌ صِيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ ... تحتَ العَجاجِ وخيلٌ تَعْلِكُ اللُّجُما
ومنه قوله جل شأنه على لسان مريم بنت عمران أم عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام: { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} أي أصوم عن كلامكم ومجاراتكم في سفاهاتكم وسوء ظنكم، حتى يجلِّي الله تعالى لكم الأمر فتعلموا صدقي وأني بريء مما ترمونني به من البهت والفحش، ثم جاء الشارع فنقل هذا المعنى إلى الإمساك عن الطعام والشراب والرفث من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية، كما قال جل ذكره : {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فالصوم إذا عبادة تركية، أي ترك لمشتهيات النفوس ولذاتها المختلفة أثناء النهار فقط، فإذا جنّ الليل فقد أفطر الصائم حكما وإن لم يفطر فعلا؛ لأن الليل ليس ظرفا للصوم، كما قال عليه الصلاة والسلام: " إذا أقبل الليل من هاهنا ، وأدبر النهار من هاهنا، وغابت الشمس فقد أفطر الصائم " أي دخل في حكم المفطر، لانتهاء وقت هذه العبادة التي كانت مغيَّاة بدخول الليل، فمن واصل الإمساك عن الطعام والشراب فإنه يكون قد أتعب نفسه من غير أن يؤجر غير عليه، بل مذموم فاعله، فقد قال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم : ، من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن مواصلة الصيام كما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الوصال" قالوا : إنك تواصل؟! قال : " إني لست مثلكم إني أُطعم وأُسقى" أي يجعل الله تعالى فيَّ قوة الطعام والسقي، وذلك بما يجده من لذة المناجاة والأنس بالله تعالى الذي يلهيه عن ملذات وشهوات الطعام والشراب، على حد قول الشاعر:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها * عن الطعام وتلهيها عن الزاد
وهم ليسوا كذلك، وهذا الإمساك الذي أراده الله تعالى منا لا يقتصر على الإمساك عن المفطرات الحسية من أكل وشرب وجماع، بل يعني كذلك الإمساك عن جميع ما حرم الله تعالى من الأقوال والأفعال، فهو إمساك عن قول الزور والبهت والغيبة والنميمة والسباب والفواحش ما ظهر منها وما بطن، كما قال عليه الصلاة والسلام: "ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد، أو جهل عليك فلتقل: إني صائم"
والمعنى أن فهم الصوم بالإمساك الحسي هو فهم قاصر، وينبغي أن يفهم فهما أعم من ذلك وهو ترك ما حرمه الله تعالى في سائر الأوقات، ففي وقت الصوم أشد، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" فالله تعالى غني عن أن يعذبكم بالجوع والعطش إذا لم يؤد ذلك إلى تهذيب النفس وتزكية الخُلق، التي هي ثمرة التقوى والتقوى هي غاية الصوم، كما بينها الحق سبحانه بقوله: { لعلكم تتقون} ومن معاني الصوم أيضا الإحساس بألم الفقير والمحتاج الذي يتضور جوعا ويعجز عن الكسب الذي يشبعه، فهو في صيام اضطراري حيث لا يجد سداد حاجته فضلا عن مشتهيات نفسه، فإذا وجد الغني ألم الجوع والعطش أدرك أن هناك من هم بأمس الحاجة لفضول طعامه وشرابه، فيعطف عليهم بشيء مما أفاء الله عليه من نعمه، فيكون شاكرا لله تعالى، وذلك من غيات الصوم أيضا كما بينته آية الصيام بقوله سبحانه{ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وهو ما حثت عليه السنة المطهرة فقد قال عليه الصلاة والسلام: "من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا"
ومن معاني الصوم المسارعة إلى الخيرات والمسابقة إليها؛ لأن الصائم مراقب ربه، فهو يسارع إلى مرضاته بما يقدر عليه، من قيام وقراءة قرآن وبر وإحسان، كما كان عليه الصلاة والسلام فقد كان "أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة"
فهذه معان سامية مصاحبة لمعنى الصيام الذي نتبتل إليه في هذا الشهر الكريم.
فنسأل الله تعالى أن يحلينا بها، وأن يتقبلها منا، ويجعلنا ممن صام هذا الشهر الكريم وقامه إيماناً واحتسابا فغفر له ما تقدم من ذنبه.."
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة