الحياد ليس موقفا سلبيا من أي حدث. ربما كان العكس هو الصحيح، عندما تتوفر للحياد معاني أبلغ من مجرد "الانخراط" في قلب أي نزاع.
عندما كان النزاع على أشده بين القوتين العظميين خلال سنوات الحرب الباردة، فقد توفر للدول المستقلة عنهما سبيلٌ لإنشاء منظمة تُدعى "منظمة عدم الانحياز"، كانت دولها تريد أن تنأى بنفسها عن تبعات صراع على النفوذ هي المتضرر الرئيسي منه في معظم الأحوال. وقيل تاليا، إن حيادها، كان حيادا إيجابيا، بمعنى أنها يمكن أن تميل إلى طرف أكثر من ميلها إلى آخر، بحسب ما يُقدَّم لها من منافع.
سويسرا، بحسب مثال آخر، ظلت محايدة طوال سنوات الحرب العالمية الثانية. وكان حيادها مفيدا للطرفين المتحاربين. سوى أنه كان نوعا من الجلوس على مقاعد المتفرجين الذين لا يهمهم من أمر الحرب إلا النأي بالنفس.
ولكن ما تتخده الإمارات من موقف استراتيجي حيال الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، وتاليا بين روسيا ودول الغرب الأخرى، هو موقف نابع من مسؤوليتها عن حفظ الأمن الدولي. كما أنه بحث عن لغة وسيطة، يعرف الكل أنها إذا غابت، فإن المخاطر الجسيمة هي التي سوف تطغى على بيئة العلاقات الدولية.
عندما تولت الإمارات مقعدها في مجلس الأمن مطلع العام الجاري، قالت لانا نسيبة، سفيرة الإمارات لدى الأمم المتحدة: "إن امتيازاتِ عضوية الإمارات في المجلس تترافق مع مسؤولياتٍ كبيرة، نحو إحلال السلام والاستقرار والتعددية في جميع أنحاء العالم".
هذا الموقف، تحددَ من قبل اندلاع الأزمة. وكان لا بد أن يبقى هو نفسه. لأنه قيمة قائمة بحد ذاتها.
اليوم، ولمدة شهر، تتولى الإمارات رئاسة مجلس الأمن. وهذه مسؤولية أكبر تُملي عليها أن تكون طرف وساطة وتسوية سلمية بين الطرفين الروسي والأوكراني، لا طرفا مع أحد ضد آخر.
ولسوف يتاح للإمارات أن تكون طرفا يحظى بالثقة، ويوفر فرصا أفضل للحد من المخاطر أو توسيع دائرة النزاع، كما يوفر فرصا أفضل للحوار.
أي دولة أخرى، اتخذت جانبا في الأزمة، لن يمكنها أن تؤدي الدور المنشود بمثل ما يمكن أن تؤديه الإمارات.
المعنى الآخر، إنما يتعلق باستراتيجية "تصفير المشكلات"، وهذه استراتيجية تسطرت خطوطها العريضة هي الأخرى من قبل أن يندلع النزاع بين روسيا وأوكرانيا. وكان لا بد لها أن تبقى هي نفسها، حتى ولو بلغت التوترات الدولية درجة الغليان.
الإمارات تعرف أيضا، أنه ما من قوة عظمى من القوى التي تتصارع الآن، إلا وكان لها مع الدول العربية ما يؤخذ عليها. وبعض المآخذ ترقى إلى مستوى الضرر بالفعل، بينما الكثير من الباقي هو تعبير عن أخطاء وفشل وسوء تقدير. والمعنى من ذلك هو أن أيا من المتصارعين لا يمتلك الناصية القيمية المرتفعة بالضرورة، كما أنهم ليسوا على تلك الناصية بين بعضهم.
والموقف الاستراتيجي الإماراتي بهذا المعنى أقرب إلى نقد المسالك الدولية عندما لا يمنح لطرفٍ كانت له أخطاؤه صوتا فيبدو كأنه يصب في مصلحة تلك الأخطاء بالذات.
نزاعات الدول العظمى وتحالفاتها غالبا ما تدور في دوائر أكثر تعقيدا من مجرد اتخاذ موقف محدد حيال دائرة واحدة من تلك الدوائر.
النظر إلى علاقات هذه الدول على مر التاريخ يقول للناظر إنها علاقات تعاون ومصالح مشتركة أكثر بكثير منها علاقات تنازع.
الأزمات غالبا ما تخلي مكانها لشيء آخر. والأزمات قد تدوم لسنوات. إلا أن علاقات التعاون والشراكة تدوم لعقود.
التجربة الدولية الواجب استخلاصها هي أن الصواب الأخلاقي دائما ما يستوجب التدخل لتحقيق السلم وليس الانحياز لطرف.
الإمارات اليوم، بين كل الذين يخوضون في غمار الأزمة الراهنة بين روسيا وأوكرانيا، تملك الوقوف على ناصية هذا الصواب بثقة القادر على تجسيده وتقديمه كمنهج يمكن الركون إليه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة