رغم سيل التقديرات حول الخطوة التالية للنزاع الروسي-الأوكراني بعد بدء العمليات العسكرية، فإن أغلب ما يُساق حول الأزمة ليس محسوما.
فسيناريوهات النزاع الروسي-الأوكراني يمكن أن تذهب إلى الاستمرار فيه، أي إن العملية العسكرية لن تنتهي بسهولة، خاصة أن موسكو تتأهب لفرض ترتيبات أمنية جديدة في منطقة القوقاز والبحر الأسود ومناطق التماس الاستراتيجي، متجاوزة فكرة أوكرانيا، ما يؤكد استمرار "بوتين" في مساره ربما لإعادة تجميع دول الاتحاد السوفييتي السابق، ما يشير إلى أن الحديث عن توافقات أو سياسات تهدئة أو تسوية قد يكون أمرا غائبا.
روسيًّا، فإن الأمور ستمضي في إطار التصعيد المباشر في مواجهة الناتو والولايات المتحدة.. فمن الواضح أن روسيا تمضي في تبني "خيار عسكري شامل" مع استمرار الحديث عن ضرورة التجاوب مع متطلباتها الأمنية، وهي تدرك جيدا أنه لا استجابة حقيقية من الناتو أو الولايات المتحدة لذلك، فقد سبق أن أعلنت روسيا ضرورة الحصول على ضمانات مكتوبة بعدم توسُّع الحلف دون أن يُنصت إليها أحد.
وفي ظل مخطط روسي واضح المعالم بالاستمرار في إنجاز "مهام كبرى" في مناطق التماس الاستراتيجية، يتسع فارق بنك الأهداف الروسي عن الأوروبي-الأمريكي، لذا فالحديث عن موقف دولي مواجه أو تدخل مجلس الأمن، خاصة بعد فشل تمرير مشروع القرار الأمريكي-الألباني، لن يفيد، فروسيا وضعت سيناريوهات ومشاهد مستجدة، ما يؤكد ترتيبها أولوياتها بصورة جيدة، وأنها بصدد التحرك من أعلى لفرض استراتيجية تعامل مختلفة، بما فيها التعامل مع منظومة العقوبات الأمريكية-الأوروبية، ما سيدفع موسكو لمزيد من التشدد، بناء على خبراتها المتراكمة في التعامل مع العقوبات.
أما إخراج الجانب الروسي من نظام "سويفت" المالي العالمي، فلن ينجح بصورة شاملة، ولن يوقع فقط الضرر بالشركات الروسية، بل أيضا بالشركات الأوروبية، خاصة الألمانية والفرنسية، وهما أكبر الأطراف المشاركة في هذه المنظومة، ومن ثمَّ فإن التخطيط الروسي سيظل قائما على التعامل مع مستجدات ما يجري وفقا لاستراتيجية "فرض الأمر الواقع"، وعدم التجاوب مع أي طرح، وإن كانت الاتصالات الروسية الأوروبية من جانب، والروسية والأمريكية من جانب آخر ستتواصل، وهذا أمر طبيعي، لكن لن تكون هناك أي تنازلات روسية يمكن الارتكان إليها، فالرئيس "بوتين" يريد أن ينقل رسالة مهمة للولايات المتحدة والناتو بأن أي ترتيبات أمنية مقرر لها أن تتم لا بد أن تتوقف، إضافة إلى أن بناء استراتيجية تحرك مقابلة من الجانب الأوروبي في إطار مهام حلف الناتو الجديدة لن تكون على حساب روسيا، بعد تبنّيه الخيار العسكري، إذ هو لن يقبل بأي خيارات أخرى، ومن ثم فإن أي حوار غربي روسي محتمل سيكون قائما على الندية، ما سيعكس مخططا روسيا في فرض الترتيبات الأمنية في منطقة القوقاز بأكملها، فروسيا لن تقبل فيما يبدو بأن تتراجع حساباتها السياسية والاستراتيجية، وهي تدرك أن الناتو لن يدخل أصلا في مواجهة معها، كما أن إدارة الرئيس جو بايدن "مرتبكة"، وليس لديها خيارات متعددة، وما تملكه من خيارات سياسية واقتصادية يستطيع الجانب الروسي التعامل معها.
غربيًّا، يواجه الرئيس الأمريكي جو بايدن إشكالية كبرى في التعامل المباشر مع إدارة الأزمة الأوكرانية، فبعد أيام من بدء العملية العسكرية واضح أن إدارته ليس لديها بدائل حقيقية، وأن ما لوَّحت به من خيارات بدأ ينفد، وهو ما يعكس عدم وجود آليات مباشرة ناجزة في التعامل، ويؤكد نجاح رهان روسيا، مع إبقاء الأمور في إطارها بالنسبة لحلف الناتو من حديث متكرر عن توسيع نطاقات الحلف، فما كان ينطبق على أوكرانيا ينطبق أيضا على جورجيا ودول أخرى أوروبية، فالقياس واحد في أن الإدارة الأمريكية لا تريد أن تقوِّض أركان النظام الأمني في هذه المنطقة، والاكتفاء بدور أوروبي تقوده فرنسا وألمانيا، مع عدم الصدام بأي طرف، خاصة مع حاجة الإدارة الأمريكية إلى موقف مستقر لألمانيا وفرنسا، خاصة في الإجراءات التصعيدية، التي تمت خلال الأيام الأخيرة، وفي مجلس الأمن، بل وفي منظمة الأمن الأوروبي، ما يؤكد أن الدول الأوروبية ليس لديها سوى سلسلة إجراءات عقابية يمكن أن تمضي فيها أمام تصعيد روسيا وتحركها من منطلق الحقوق التاريخية الروسية في الفضاء السوفييتي السابق، وهو أمر ربما سيكون مطروحا بقوة في الفترة المقبلة، التي ستشهد مواجهة الرئيس الأمريكي اختبارا عسيرا يرتبط بإجراءات انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، إضافة إلى أن فرنسا -قائدة قطار الاتحاد الأوروبي- ستواجه انتخابات رئاسية خلال 40 يوما، فضلا عن ارتباك ألمانيا وتأثرها بإلغاء تشغيل خط "نورد ستريم 2" بضغوط أمريكية.
المحصلة: ستستمر المواجهات الروسية الغربية، وسيستمر العمل العسكري، ولن يُحسم خلال المدى القصير، خاصة أن التصعيد العسكري الروسي موجَّهٌ للولايات المتحدة، كرسالة أولى لما هو مخطط له روسيًّا في منطقة لا تحتمل أنصاف خيارات، أو أشباه سيناريوهات بالنسبة لمتطلبات الأمن القومي الروسي، والتي تعلو على أي خيار في الوقت الراهن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة