مقررات القمم الخليجية والعربية والإسلامية كانت واضحة ولم تحتمل أنصاف خيارات وأشباه مواقف.
نقلت القمم الثلاثية الخليجية والعربية والإسلامية التي عقدت مؤخرا في مكة المكرمة رسائل سياسية واستراتيجية وأمنية من الدول العربية والإسلامية إلى إيران بضرورة مراجعة مواقفها السياسية الراهنة، والعمل على إقامة علاقات طبيعية مع دول الجوار الإقليمي، وفي المنطقة العربية والشرق أوسطية بأكملها، وهو ما سيتطلب مراجعة حقيقية لمجمل التوجهات الإيرانية، خصوصا أن السعودية نجحت في نقل رسالة مهمة إلى إيران بقدرتها الكبيرة على حشد المواقف والتوجهات العربية وبناء مواقف عربية وإسلامية في مواجهة أي تهديدات لأمن الإقليم من إيران ومن غيرها.
الدول العربية في موقع القوة بأوراق ضغط حقيقية وفعالة وعلى كل الأطراف أن تدرك ذلك، وتتفهم ما خلصت إليه القمم الثلاثية في مكة المكرمة
والرسالة المباشرة لم تكن لإيران فقط، بل كانت لأطراف الإقليم أيضا، خصوصا إسرائيل في ظل بعض الممارسات التي تقوم بها في الأراضي العربية المحتلة، وتتطلب وقفة حقيقية جرت في قمم مكة المكرمة، ومن خلال تنسيق خليجي واضح قادته كل من السعودية والإمارات والكويت، وشارك في فعالياته مصر والأردن، وباقي الدول العربية والإسلامية التي شاركت بفاعلية في قمم مكة، ونقلت رسائل تكتيكية واستراتيجية للجانب الإيراني بضرورة العودة عن مخططاته بتهديد أمن الملاحة البحرية والمضايق والمرافئ العربية، التي باتت معرضة لأعمال تخريبية مثلما جرى أمام سواحل دولة الإمارات العربية، وامتد لتهديد المنشآت النفطية للسعودية، إضافة إلى ممارسات التيار الحوثي بتهديد أمن المقدسات الإسلامية، وإطلاق الصواريخ على المدن المقدسة .
إن الرسالة التي خرجت بها القمم الخليجية والعربية والإسلامية أن هناك أوراقا ضاغطة في أيدي الدول العربية والإسلامية، وأنه إذا تم توظيفها والعمل عليها في مواجهة القوى الإقليمية الباغية والمهددة لأمن الإقليم فسوف تتزن بعض القواعد السياسية في الإقليم وخارجه مع إدراك هذه القوى أن البدائل والخيارات العربية متاحة وممكنة، وأنها قادرة على طرح نفسها.
وهذا ما جرى بالنسبة إلى إيران التي أدركت أن جميع السيناريوهات الواردة في التعامل قائمة، وأنها لا يمكن أن تستمر بتهديد الأمن الإقليمي ولمنطقة الخليج العربي بهذه الصورة، وأن عليها الخروج من حالة الزعامة والعملقة الاستراتيجية الوهمية للعمل على الأرض كطرف مجاور وليس كمشروع توسعي أيديولوجي لفرض المشروع الفارسي على الإقليم، وإعادة تنظيمه وفقا لفلسفة إيرانية عبر وكلائها في الإقليم.
ولعل ردود الفعل الجارية في المنطقة قبل وبعد القمم الثلاثية ونجاحها في نقل الرسالة المباشرة إلى القادة الإيرانيين دفعت أمين عام حزب الله حسن نصر ليعلن استعداده للذود عن إيران والدخول في المواجهة العسكرية حال تعرض إيران للخطر، وهو ما عبر عنه أيضا التيار الحوثي في استهداف السعودية بصواريخه الإيرانية.
ووفقا لردود الفعل الإيرانية المحسوبة جيدا لدى النظام الإيراني فإن الدول العربية مصممة على اتخاذ موقف محدد تجاه إيران، ومحاصرة وتقييد الخيارات الإيرانية في الإقليم، وهو ما سيجعلها ترتب خياراتها الراهنة في المنطقة وفقا لتوجهات جديدة؛ الأول: إعادة تكرار الخطاب السياسي والإعلامي بالرغبة في عدم المواجهة، والتهدئة والعمل على فرض السيناريو الإيراني في إدارة الأزمة مع الولايات المتحدة من جانب ودول المنطقة من جانب ثان. والثاني: استمرار التأكيد على العمل معا، أي مع الإدارة الأمريكية والدعوة للحوار السياسي والدخول في مفاوضات الأمر الواقع. والثالث: هو وجود مزيد من الخيارات العربية -نتيجة لنجاح قمم مكة الثلاثية- في التعامل مع إيران وتحميل المجتمع الدولي مسؤولية بناء موقف واحد تجاه إيران، وعدم إتاحة الفرصة للعبث بأمن الإقليم، وبالتالي فإن الخطوة الأولى أمريكيا ودوليا إيقاف الممارسات الإيرانية والتزامها بألا تكون مصدرا للتوتر في الإقليم.
ومن ثم فإن إقدام إيران على تسويق وطرح خيارات متعلقة بتوقيع اتفاقيات عدم اعتداء أو حسن جوار وغيرها قد يكون مدخلا نظريا مقبولا ويمكن العمل به، لكنه غير كافٍ في إطاره العام، ويجب أن يستكمل بإجراءات شاملة لا تعطي للجانب الإيراني فرصا للمناورة أو المقايضة أو المساومة أو المراوغة.
إن الوقوف في مواجهة ما سيجري سيكون مرتبطا بموقف عربي قوي واستثمار المقررات الثابتة للقمم الثلاثية الناجحة، التي أثبت قدرة الدول العربية في الإقليم على بناء مواقف متماسكة ومباشرة في مواجهة من تسول له نفسه المساس بأمن الإقليم العربي بأكمله، وهو ما سيكون مطروحا بقوة في الفترة المقبلة وإزاء التعامل مع إيران بكل ما تطرحه من مهددات للأمن القومي العربي، شأنها شأن تركيا وإسرائيل، وهي دول تسعى لبلورة مشروعاتها الخاصة في الإقليم على حساب الأمن القومي العربي، وهو ما فطن إليه القادة العرب وأكدوا مواجهته بكل الصور المطروحة. يكفي أن هذه القمم الناجحة قد أعادت التذكير بمحورية القضية الفلسطينية، واعتبارها القضية الرئيسية في الإقليم ولا تعلوها قضايا أخرى مع التأكيد على الخطر الإيراني باعتباره المهدد الرئيسي والحقيقي للأمن القومي العربي.
الرابع: إن مرحلة ما بعد القمم الثلاثية في مكة ستتطلب إعادة التأكيد على الثوابت العربية في مواجهة أي خطر حقيقي وآني، وهو المتمثل بصورة مباشرة في إيران، التي ستستمر إلى أن تعود إلى رشدها السياسي، وتحتكم لخيارات حسن الجوار، وهي المهدد الأكبر الذي يجب التعامل معه وتحييده بل وتهميش تأثيره، فالخليج العربي بدوله ووحداته السياسية وقوته الاستراتيجية والاقتصادية قادر على أن يقف في مواجهة أي تحديات إيرانية، مع التأكيد على أن الحليف الأمريكي يحتاج أن يضع في تقييمات مجمل عناصر تحركه السياسي والاستراتيجي إزاء إيران، وأن الدول العربية لديها بدائلها الحقيقية في التعامل مع أي خطر إيراني أو إسرائيلي، وأن قبول الدول العربية بمنهجية التحالف الأمريكي العربي يتطلب دورا أمريكيا مباشرا ومحددا تجاه إيران، مع التأكيد على خطورة الحركة الإيرانية على المصالح الأمريكية في المنطقة بأكملها، وليس فقط في الخليج، أو أن الإدارة الأمريكية في حاجة لضرب منشآت لها في المنطقة للتحرك، فهذا أمر غير واقعي، كما أن الشروط التي تعتبرها الإدارة الأمريكية تجاوزا للخطوط الحمراء لا يجب أن تتوقف عند البرنامج الخاص بالصواريخ فقط بل وأيضا البرنامج النووي ومراحل تنفيذه التي تسعى إيران إلى استئناف نشاطها بهدف تحسين شروط التفاوض مع الإدارة الأمريكية، مع استمرار قنوات تعاملها مع الأطراف الأوروبية، لكن من واقع سياسي واستراتيجي جديد .
إن مقررات القمم الخليجية والعربية والإسلامية كانت واضحة، ولم تحتمل أنصاف خيارات وأشباه مواقف، وهو ما يشير إلى أن الدول العربية لديها البدائل والسيناريوهات والتصورات، وهو ما طرح في كلمات رؤساء الوفود من جانب والاتصالات واللقاءات التي دارت على هامش القمم من جانب آخر. والمعنى أن الدول العربية توجهت برسائل بليغة إلى إيران والمجتمع الدولي، ومن ثم فإن المرحلة المقبلة للعالم العربي ليس الانتظار لما سوف تسفر عنه الأوضاع في الخليج أو انتظار نتائج القمم وتفعليها، بل بالعكس فإن الدول العربية طرحت المعادلة الصعبة التي تحتاج الولايات المتحدة التعامل معها انطلاقا من الواقع الراهن وحرصا على علاقاتها بالدول العربية، وهي علاقات متشابكة بالفعل، وتحتاج إلى منظومة جديدة من الحسابات والتقييمات الواقعية في إطار التعامل مع إيران ودفعها دفعا لتبني خيارات توافقية وليست تصعيدية، وعليها أن تدرك أن إيران هي الخطر الأكبر الذي يجب الانتباه إليه والتعامل معه بجدية بعيدا عن المناشدات والتصريحات الإيجابية التي قد لا يفهمها الجانب الإيراني ويعتبرها تنازلا.
الدول العربية في موقع القوة بأوراق ضغط حقيقية وفعالة وعلى كل الأطراف أن تدرك ذلك، وتتفهم ما خلصت إليه القمم الثلاثية في مكة المكرمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة