الأرقام تؤكد أنّ من يشتري كتب مساعدة الذات يعود لشراء الأجزاء اللاحقة كلما صدرت، لأنه يسقط ضحية تلك الكلمات المعسولة.
ما زلت أذكر مساء ذاك اليوم بأحد الأعراس في مدينة العين وأحد كبار السن قد أخذه الحماس لصوت فرقة «الحربية» ودخل ضمن «اليوّيلة». كان المكان ممتلئاً والبعض يرمي قطع السلاح - الخالية من الذخيرة بالطبع - للأعلى كعادة هذا الفن الشعبي، خلف ذلك «الشايب» كان طفل يحاول رمي سلاحه الخشبي مقلداً الكبار، فسقطت القطعة الخشبية على رأس الشايب وسقط لضعف جسمه، حينها سارع أحد الظرفاء أصحاب المقالب بقطعة موز وعجنها سريعاً في يده ووضعها على رأس الشايب وهو يصرخ: «لحقوا عليه مخّه طلع»، لحظات وإذا بالشايب يصيح كالملدوغ وقد صدّق فعلاً أنّ العجين الأبيض الذي في يد الرجل كان مخّه.
طبعاً أخذ الموقف وقتاً حتى تم إقناع الشايب أن ذلك عجين موز لا أكثر.
ما يدعوني لذكر هذه القصة، ذلك الانفلات غير المعقول في ما بات يعرف بصناعة مساعدة الذات Self-Help Industry التي غزت بلداننا العربية بعد أن استطاعت أن تفعل الأفاعيل في بلاد الغرب، وتحديداً في الولايات المتحدة الأميركية، وفعلها في «الغالب»، حتى لا ندخل في تعميم خاطئ، يقوم على نفس مبدأ إيهام ذلك الشايب أنّ ما يراه هو عجين دماغه، وأنه يشعر فعلاً بألم كسر جمجمته.
أحدهم «صدّعني» بقانون الجذب وأنّ ما تفكّر به دوماً هو ما سيجعل «طاقة الكون» تأتي به إليك، قلت له لن تجد أحداً يفكّر بالطعام مثل الجائعين في أفريقيا ولن يفكّر بالمال مثل فقراء بورما وبوركينا فاسو، ولن تجد أحداً يفكّر بالأمن مثل أطفال سوريا
هذه النزعة التي تقوم على التبرع بتجهيز حلول لمشكلات نفسية وروحية في المقام الأول، ثم بيعها على أولئك الذين يسقطون، إما بالإقناع أو لحبّهم لتقليد غيرهم، في حبائل هؤلاء والذين لا نظلم أكثرهم حقهم من التأهيل، لكنّه تأهيل يخالف التوجّه، فالتوجّه يقوم على ضرورة اختلاق عيب أو أكثر في شخصية «كل» إنسان يستطيعون الوصول إليه، ثم تقديم علاجات سريعة عبارة عن كتب أو تسجيلات أو جلسات علاجية أو دورات تدريبية يصفق لها بعض المدفوع لهم مسبقاً، أو المغرّر بهم من السُّذَّج الذين يقضون طيلة حياتهم بين هذه الكتب وتوابعها ولا يستطيعون منها فكاكاً حتى يمر بهم ملك الموت.
هذه الصناعة، أو التجارة بالأصح، بلغت عائداتها لأصحابها من بائعي الوهم و«عاجني الموز» عام 2008 أكثر من عشرة مليارات من الدولارات في أميركا لوحدها، وبنمو سنوي بلغ 6%، بإمكانكم القيام بالحسبة لتعرفوا عائداتها بعد عشر سنوات من ذاك التاريخ، لكن رغم ذلك العدد الهائل من الكتب والأسطوانات إلا أنّ الأرقام الموجعة بين الناس تتزايد، فهذه «الأكذوبة» لم تنجح في علاج أكثر من 40 مليوناً يعانون من القلق، و15 مليوناً يعانون من الكآبة، و7.7 ملايين يعانون من اضطرابات ما بعد علاجات الأمراض الصعبة، بل إنّ الأميركان أنفقوا عام 2016 على علاجات الكآبة والقلق والاضطرابات النفسية قرابة 446 مليار دولار، وهو ما يمثل نصف الإنفاق العالمي، فلماذا لم تظهر آثار كتب وفيديوهات مساعدة الذات؟
لم تظهر لأنها ببساطة أشبه بالأمراض السرطانية التي يزيد انتشارها بإضعاف الجسم أكثر وتدمير خلاياه وجهازه المناعي بالتدريج، دون وجود هذه الصعوبات أو الاضطرابات النفسية فلا وجود ولا حاجة لبضاعتهم، لذا لا بد من اختلاقها من العدم ومن الضرورة بمكان أن يتم اللعب على مفهوم المخالفة بطريقة غير مباشرة، كيف ذلك؟ لا تستطيع أن تقول لشخص قميصك الأبيض غير جميل لأنه سينتقل لموقف الدفاع عن النفس باستماتة، لذا فالأصوب أن تقول له إنّ اللون الأزرق هو آخر النزعات الراقية في عالم الموضة، حينها سيقوم من تلقاء نفسه بتغيير قميصه الأبيض لأنه يخجل من شيء لا يعتبر من ضمن المرغوب مجتمعياً، كذلك الحال في تجارة مساعدة الذات، لا بد أن يتم الإكثار من الكتب التي تكون عناوينها «طريقك للسعادة»، و«17 طريقة مؤكدة لتكون سعيداً»، و«السعادة من هنا»، فبهذه الطريقة تترسّخ دون أن يشعر في نفس الإنسان أنّه غير سعيد.
الأرقام تؤكد أنّ من يشتري كتب مساعدة الذات يعود لشراء الأجزاء اللاحقة كلما صدرت، لأنه يسقط ضحية تلك الكلمات المعسولة ويقتنع أنّ وسيلته الوحيدة للخروج من كآبته أو إخفاقاته أو عدم تماسكه النفسي هو بشراء هذه المنتجات، هو بحثٌ محموم للوصول لعلاجات سريعة Quick Fixes بدفع المزيد من الأموال لأصحاب هذه المنتجات والذين يتفنّنون في كسر دواخل الناس أكثر دون أن يشعروا ليروّجوا بينهم بضاعتهم، دون هذا الشيء لن تكون تجارتهم مربحة، هل وصلت الفكرة؟
الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان، وهذه الخصلات التي بإمكانها مساعدته للخروج من أزماته وتحدي الصعوبات التي تواجهه موجودة فيه، إن لم يستخدمها فسيفقدها وسينتهز الفرص مروّجو الوهم ليحصلوا على ما في جيبه، كل نجاح يحتاج جهوداً كبيرة، وكل فارقٍ كبير لا يمكن أن يحصل لمن يبحث عن العلاجات السريعة. تقول ليندسي ماير خبيرة العلاج النفسي وهي تثور في مقال لها لكشف طريق الدجل الذي وصلت له صناعة مساعدة الذات بأنّ أقل من 20% من هذه الكتب تستند في فرضياتها على نتائج أبحاث مؤسسات محترمة، بينما الغالبية تعتمد على الآراء الشخصية لا أكثر، الأمر الذي يجعلها متهالكة الطرح لا تستند لاختبارات حقيقية معتمدة.
أعلم بأنّ هذا المقال لن يعجب الغارقين في هذه الكتب، أحدهم «صدّعني» بقانون الجذب وأنّ ما تفكّر به دوماً هو ما سيجعل «طاقة الكون» تأتي به إليك، قلت له لن تجد أحداً يفكّر بالطعام مثل الجائعين في أفريقيا ولن يفكّر بالمال مثل فقراء بورما وبوركينا فاسو، ولن تجد أحداً يفكّر بالأمن مثل أطفال سوريا، ولكن ذلك لم ينفعهم بشيء، لا شيء يأتي دون تخطيط وتنفيذ وصبر وجهدٍ كبير، ما عدا ذلك لا يعدو أن يكون كذباً على النفس وتصديقاً بوجود مصباح علاء الدين الذي يحقق لك ما تريد، مصباح هذا الزمن هو منتجات مساعدة الذات، والأمر لك، إمّا أن تجتهد لتحقق ما تريد وتتجاوز مصاعبك وإمّا أن تصرخ مصدقاً أنّ عجينة الموز هي دماغك الذي خرج بلعبة طفلٍ خشبية.
نقلا عن "البيان"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة