ميركل.. شهور الوداع يغلفها البحث عن خليفة
يبدو مسار خلافة ميركل على رأس الحكومة الألمانية صعبا، انطلاقا من تنافس أسماء تبدو متقاربة في القدرات والشعبية على منصبها.
15 عاما متواصلة في سدة الحكم يمكن أن تظهر أسوأ ما في بعض القادة، والأمثلة كثيرة في عالم اليوم.
لكن في حالة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الوضع مختلف؛ فالمرأة الحديدية تكسب الاحترام والحب يوما بعد يوم حتى وهي تقف على حافة الوداع السياسي.
فالسيدة التي تحكم ألمانيا بـ"شغف وحكمة" منذ 2005، تستعد لترك الحياة السياسية نهائيا أواخر العام الحالي بعد أن قررت قبل عامين، بشكل طوعي، فتح الطريق أمام جيل جديد من القادة في بلادها، والخروج من الباب الكبير بعد نهاية الفترة التشريعية الحالية في خريف 2021.
وخلال يومي الجمعة والسبت المقبلين، يعقد الحزب الديمقراطي المسيحي "يمين وسط" مؤتمره العام لاختيار رئيس جديد، في أول خطوة في مسار اختيار خليفة لميركل على رأس الحكومة الألمانية.
تاريخ كبير وإنجازات لا تنتهي
بصفة عامة، صنعت ميركل التاريخ كثيرا منذ 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2005، وهو يوم توليها الحكم، سواء لأنها أول امرأة تحكم جمهورية ألمانيا الاتحادية، أو اتخاذها قرارات قوية مثل إلغاء التجنيد الإجباري أو استقبال مليون لاجئ في أزمة اللاجئين 2015، أو إنهاء اعتماد بلادها على الطاقة النووية.
ورغم أن مجلة فوربس الأمريكية تصنفها "أقوى امرأة في العالم"، تحظى ميركل المعروفة بحبها للموسيقى الكلاسيكية وخطها الإنساني الواضح، بحب واحترام الجاليات العربية في ألمانيا، وأطلق عليها السوريون "ماما ميركل" بسبب قرارها فتح الأبواب أمام مليون لاجئ لدخول بلادها في 2015، معظمهم من سوريا والعراق، وتحملها تكلفة سياسية ألقت بظلال على شعبيتها، في سبيل هذا القرار.
ويقول توماس دي مزيير السياسي، الذي رافق ميركل لمدة 22 عاما في أروقة الحزب الديمقراطي المسيحي "يمين وسط" والحكومة، "رأيت المستشارة لأول مرة مارس/آذار 1990، حيث كانت أحد القيادات الكبيرة في الحركة الثورية الشبابية في ألمانيا الشرقية التي كانت تنهار في ذلك الوقت".
وتابع: "كنت متحدثا باسم الحزب الديمقراطي المسيحي وشاركت في مؤتمر صحفي مع ميركل"، مضيفا "كانت متوترة ومهتمة بالتنظيم لأبعد حد وتركت انطباعا جيدا للغاية، لكننا لم نتعرف على بعضنا في ذلك اليوم".
وبعد ذلك بسنوات طويلة، اقترب دي مزيير من المستشارة الألمانية كرئيس لديوان المستشارية، ثم وزير للدفاع، ووزير للداخلية قبل خروجه من الحكومة في 2017.
دي ميزيير يقول عن المستشارة: "شغوفة لدرجة كبيرة لكنها تخفي ذلك الشغف قليلا، ولا تحب إظهار مشاعرها، وتتصرف بمسؤولية كبيرة وهادئة".
وتابع، في مقابلة مع مجموعة دويتشه فونكة الإعلامية الألمانية "خاصة": "كما تتسم ميركل بروح الدعابة لكن لا تحب إظهارها أمام الجمهور".
وبالإضافة إلى ذلك، تعرف ميركل جيدا كيف تتعامل مع الرجال الأقوياء، إذ تعكف على دراسة الشخصية بعناية فائقة قبل لقائهما، وتجمع كل المعلومات حول تصرفات وصفات وأقوال الشخصية، وفق دي مزيير الذي قال "فعلت هذا قبل لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب".
كما أن أستاذة الفيزياء التي اكتشفت وسائل إعلام ألمانية، الأصول البولندية لجدها من ناحية الأب في 2013، تتبع الأسلوب العلمي في التفكير ودائما ما تربط بين السبب والنتيجة، وتتساءل قبل اتخاذ القرارات "ماذا يحدث لو فضلت هذا الخيار على ذلك؟".
أزمات ولكن
وحافظت ميركل خلال 15 عاما في سدة الحكم، على مسيرتها السياسية الناجحة وسط أمواج عاتية، آخرها تفشي فيروس "كورونا" المستجد، بل إنها خرجت بقرارات قوية بالإغلاق الكامل رغم معارضة قطاع من الألمان ومخاوف رجال الاقتصاد.
وأمس، خرجت ميركل بتصريح اعتبره البعض صادما والبعض الأخر "قويا"، عندما صارحت شعبها بإمكانية استمرار الإغلاق حتى أبريل/نيسان المقبل، للسيطرة على تفشي الجائحة.
وقبل أكثر من عام، كان الجميع يتوقع نهاية مفاجئة لميركل، بعد أن ظهرت ضعيفة وجلست في استقبالات رسمية على كرسي ثلاث مرات إثر إصابتها برعشة مفاجئة أمام عدسات الكاميرات، لكن المستشارة التي تمسكت بأنها "بصحة جيدة" استطاعت أن تخرج من هذه الأزمة قوية، ولم يظهر عليها هذا الضعف مرة أخرى.
وفي 2019، على سبيل المثال، قادت ميركل سفينة الائتلاف الحاكم مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي "يسار وسط"، وسط رياح سياسية عاتية إثر خلافات بين طرفي الحكومة حول عدة قضايا أبرزها قضايا المناخ والرقمنة وميزانية الدفاع، ثم تعرض الاشتراكي الديمقراطي لهزيمة كبيرة في الانتخابات الأوروبية في مايو الماضي.
ولم تكن هذه أول مرة تفاجئ بها ميركل متابعيها وخصومها بقوة وجلد، فهي تمتلك رحلة صعود استثنائية في عالم السياسة، بداية من توليها منصب وزير البيئة في 1997، ثم انتخابها في 1998 أمين عام للحزب الديمقراطي المسيحي، قبل أن تتولى رئاسة الحزب بعد أربع سنوات فقط من هذا التاريخ.
وفي 2005، أنهت ميركل سيطرة الاشتراكيين على الحكومة، بعد أن هزمت الحزب الاشتراكي الديمقراطي "يسار وسط" برئاسة المستشار آنذاك جيرهارد شرودر، وأصبحت أول مستشارة في تاريخ البلاد.
خلافة معقدة
حتى اليوم، يبدو مسار خلافة ميركل على رأس الحكومة الألمانية صعبا، انطلاقا من الخبرة والقدرات التي تتميز بها المستشارة وصعوبة تعويضها، وتنافس أسماء تبدو متقاربة في القدرات والشعبية على منصبها الذي سيصبح شاغرا بنهاية الفترة التشريعية الحالية.
وفي 15 و16 يناير/كانون الثاني، يجري الحزب الديمقراطي المسيحي "حزب ميركل" انتخابات داخلية لاختيار رئيس جديد له خلفا لوزيرة الدفاع الحالية، أنغريت كرامب كارنباور، في أول خطوات تحديد خليفة المستشارة.
ويتنافس ثلاثة من الصقور على رئاسة الحزب، هم فريدريش ميرتس، الرئيس السابق للكتلة البرلمانية للحزب، وأرمين لاشيت، رئيس ولاية شمال الراين ويستفاليا" غرب"، ونوربرت رونتغن، النائب البارز عن الحزب.
وفي حين يتصدر ميرتس، وهو محافظ ومن الجناح المتشدد، استطلاعات الرأي بين قواعد الحزب، يمنح مراقبين، لاشيت، وهو سياسي من الوسط، الفرصة الأكبر في اقتناص أغلبية تصويت مندوبين الحزب خلال المؤتمر العام.
وبعد نهاية التصويت وتحديد رئيس الحزب الديمقراطي المسيحي، سيكون على الأخير أن يدخل في مفاوضات شاقة مع ماركوس زودر، رئيس وزراء إقليم بافاريا، ورئيس الحزب الاجتماعي المسيحي، الطرف الأخر في الاتحاد المسيحي "يمين وسط"، وهو التحالف الذي يخوض الانتخابات التشريعية الألمانية موحدا منذ عقود.
وتحسم المفاوضات بين الفائز برئاسة الحزب الديمقراطي المسيحي "الطرف الأقوى في التحالف"، وزودر، اسم مرشح الاتحاد المسيحي لمنصب المستشارية خلفا لميركل.
ويمكن أن تسفر المفاوضات عن تسمية الفائز برئاسة الحزب الديمقراطي المسيحي، وهو الاحتمال الأكبر، أو زودر، أو شخص ثالث، مرشحا لمنصب المستشار، على أن يعلن اسم المرشح في مارس المقبل على أقصى تقدير، وفق صحيفة بيلد الألمانية.
وتجرى الانتخابات التشريعية في سبتمبر المقبل، لكن الاتحاد المسيحي يتصدر استطلاعات الرأي بـ35% من الأصوات، بفارق مريح عن الخضر "يسار" صاحب المركز الثاني بـ16.5% من الأصوات، وفق أخر استطلاع نشرته صحيفة هاندلسبلات الألمانية "خاصة" مؤخرا.