أما في المأساة السورية فعايش السوريون النزوح أكثر من مرة، ولعل العشرات من القصص التي تردنا يوميا تثبت ذلك
أستعير هنا -بتصرف- عنوان الرواية الأشهر لـ"عبقري الرواية العربية" السوداني الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال"، لأعبر من خلال هذا المقال إلى واقع يعيشه نحو نصف مليون نازح سبّب لهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عُقداً نفسية وأمراضاً لن تُنسى أو تُعالج بمرور العقود.
في رواية الطيب صالح، التي سأمرّ عليها سريعاً لأنها ليست موضوعنا، والتي اختيرت كأفضل مائة رواية عربية في القرن العشرين، نحن أمام شخصية البطل السوداني مصطفى سعيد، الذي يسافر للدراسة في العاصمة البريطانية لندن، من مجتمع ريفي إلى صخب حياة محتلي بلاده، لكنه بتفوقه الدراسي والاجتماعي وبمقارنته بين أنماط الحياة يثبت نفسه أكثر فأكثر، إلا أنه سرعان ما يقيم العديد من العلاقات مع النساء ليُتهم لاحقاً بقتل السيدة جين موريس ويُسجن على إثرها، ثم يعود إلى السودان، فيما انتهت حياته غرقاً في نهر النيل ضمن ظروف غامضة.
هي الحياة حين يقرر مصيرها شخص واحد فقد شعبية في بلاده وغطى مشاكل بلاده السياسية والمالية والاقتصادية بهذه الحرب غير العادلة أبداً، هو الرئيس "غير الطيب" أردوغان الذي احتل بلاداً أراد الشر لها
أما في المأساة السورية، فعايش السوريون النزوح أكثر من مرة، ولعل العشرات من القصص التي تردنا يومياً تثبت ذلك، فمدينة سري كانيه "رأس العين" مثلاً عايشت الإرهاب الداعشي في عام 2012 وذاقت مرّ النزوح والقتل مرات ومرات، قبل أن تذوقه للمرة الأقسى في حياتها، في حملة أطلق عليها حزب العدالة والتنمية اسم "نبع السلام"، بحجة إقامة منطقة آمنة على حدودها الجنوبية، علماً أن هذه الأكذوبة لا يمكن أن تمرّ على أي مدرك للسياسة التركية التوسعية وأطماعها السابقة.
الأصعب هو أن تنزح مرتين وأكثر، فالكثير من النازحين كانوا يقيمون في المخيمات أصلاً، ولا سيما مخيم "عين عيسى" الذي زرته في مهمة صحفية قبل أشهر، وكان ينبض بالحياة، على الرغم من أن المقيمين فيه كانوا راضين عن حيواتهم كما يُقال، حتى لو كانت ظروفهم سيئة والمساعدات شحيحة، لكن كيف سيواجه الآباء والأمهات أطفالهم؟ ماذا سيجيبونهم لو سألوهم أطفالهم عن سبب نزوحهم من خيمة النزوح نفسها؟
حالة عدم الاستقرار التي يعيشها الشعب السوري منذ أكثر من ثماني سنوات، والتي دفع ثمنها الصغار قبل الكبار، لا يمكن أن تتوقف هنا، فالأرقام الأممية تبدو مخيفة في ظل نصب مخيمات جديدة ستكون بديلاً عن المنزل، بهذا المفهوم الذي أسسه ربّ المنزل بعرقه عبر سنواته الطويلة، وها هو في الوقت نفسه يفقد هذا المنزل كواحد من أبنائه، ولعل الأسوأ هو ما يقوم به النظام التركي من تغيير ديموغرافي في منطقة شمال وشرق سوريا، بادعائه أن المنطقة الآمنة ستكون وطناً جديداً لأكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري في تركيا.
ما هذا المنطق الذي يفكر بموجبه أردوغان؟ هل الحل هو إسكان الآخرين في بيوت أصحابها الأصليين عنوة؟ أين الترابط بين الشعوب السورية بعدها؟ أليس هذا بداية حرب جديدة بين المكونات السورية؟ فعندما تسكن مواطناً سورياً من منطقة ريف دمشق مثلاً في منزل مواطن سوري من تل أبيض.. أين يمكن معرفة الخلل هنا؟
هذه التجربة طبقها أردوغان بحذافيرها في مدينة عفرين السورية، واحتلها بين ليلة وضحاها، وهو يعلم أنه غير شرعي أو قانوني أو أخلاقي في كل حروبه على شمال وشرق سوريا، ألا أن "جنون العظمة" العثمانية وإيمانه بأنه يمثل الإسلام، أعمياه عن رؤية الحقيقة وهو يقصف المدنيين والأطفال بالأسلحة المحرمة دولياً "الفوسفور".
هذا الجنون الذي يسيطر على رأس النظام التركي، الذي أوصل اقتصاد بلاده للهاوية وسجن مئات الآلاف، ستكون وبالاً عليه، وأعتقد أن أزمة شمال وشرق سوريا لن تدوم طويلاً بتدخل الطائرات الروسية والجيش السوري، إلا أن هذا التحالف بين موسكو وأنقرة في الوقت نفسه قد يصيبه الشلل نوعاً ما، بسبب الضغط الدولي الهائل والتعاطف مع الشعب السوري في هذه المنطقة، الذي دفع ثمن فاتورة القضاء على داعش غالياً، ثم تتم مكافأته باحتلال منزله!
هي الحياة حين يقرر مصيرها شخص واحد فقد شعبية في بلاده وغطى مشاكل بلاده السياسية والمالية والاقتصادية بهذه الحرب غير العادلة أبداً، هو الرئيس "غير الطيب" أردوغان الذي احتل بلاداً أراد الشر لها، على عكس بطل رواية الطيب صالح، الذي ظل يذكر مآثر وحضارة بريطانيا وأراد الخير لها رغم نهايته غير المتوقعة وإخفاقاته في القارة العجوز.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة