المؤرخ اللبناني خالد زيادة: المدن العربية تغيرت تحت ضغط الحداثة
المؤرخ اللبناني خالد زيادة يرى في كتابه أن المدن التاريخية لم تكن زاهية كما تصورها كتب التاريخ أو ما ترويه الحكايات.
أكد المؤرخ اللبناني البارز الدكتور خالد زيادة في كتابه "المدينة العربية والحداثة" أن المدن العربية التقليدية ذات الإرث التاريخي الضخم تغيرت وتبدلت معالمها بفعل اجتياح الحداثة لها.
ويرى زيادة في كتابه الصادر عن دار "رياض الريس" في بيروت عبر 257 صفحة، أن المدن التاريخية لم تكن زاهية كما تصورها كتب التاريخ أو ما ترويه الحكايات، بل كانت تعاني من الكوارث المتعاقبة ولم تنجو منها إلا بفضل عمليات التحديث التي خلقتها "العقلانية المنتصرة" في القرن الـ18 وكانت تفرض شروطها على الحياة العامة.
كما ينحاز للتقاليد المدنية التي وفدت مع الحداثة الأوربية، مشيراً إلى أنها ارتبطت بأفكار ومؤسسات وأدوات وأنظمة حكم صاغت معها مفهوماً تجريدياً متعالياً للدولة التي لم تعد فرداً أو عصابة، وإنما إرادة وآليات للحكم وتداول السلطة وبناء المؤسسات وفصل الدين عن الدولة، وترافق ذلك مع تقدم علمي وتقني.
وخالد زيارة هو مؤرخ وأستاذ جامعي، شغل منصب سفير لبنان في القاهره بين عامي 2007 - 2016، والمندوب الدائم لدى جامعة الدول العربية، وعمل أستاذاً في معهد العلوم الاجتماعية في الفترة ما بين 1980 - 2007، وهو حاصل على دكتوراه الحلقة الثالثة بالسوربون- باريس عام 1980.
وله أكثر من 30 مؤلفاً في التاريخ الحديث، من أبرزها: "لم يعد لدى أوروبا ما تقدمه للعرب"، و"الكاتب والسلطان"، و"المسلمون والحداثة الأوروبية "، بالإضافة إلى أعمال أدبية تؤرخ لتحولات مدينة طرابلس شمال لبنان، وهو زميل في معهد الدراسات المتقدمة- برلين.
ووفقاً للكتاب، أدى التحديث العمراني إلى قيام مدينة حديثة مجاورة للمدينة القديمة التي صمدت واكتسبت رمزيتها المقاومة في طور التحديث الثاني زمن الاستعمار، لكنها استسلمت للسلطة الوطنية التي كانت تدعي العلمنة وترسم خطط التنمية وتراهن على قوة المدينة الجديدة، ما أدى إلى معاناة المدن القديمة التي هجرها الناس واستسلمت لموجات الهجرة الريفية التي غيرت من معالمها، ولم تعد القسمة بين مدينة حديثة وأخرى قديمة، بل أصبحت بين المدينة من جهة وبين ضواحيها متنامية الأطراف.
ويشير إلى أن أغلبية سكان المدن التقليدية وبحكم كونهم نزحوا من قرى ريفية، يفتقرون لروابط الانتماء للمدينة كما يفتقدون "اللغة المشتركة" معها، لذلك اغتربوا عنها وبالغوا في التمرد والانتقام من حداثتها التي بدت "هشة" غير قادرة على تأصيل وجودها وتأكيده في مواجهة الانحطاط العمراني.
ويكشف زيادة في الكتاب عن أن جانباً من مشكلات تناول المدينة العربية مرتبط بالتباس المفاهيم والمصطلحات، كما أن التوجه لمقارنة المدينة الإسلامية بالمدينة الغربية تأسس المحور الرئيسي فيه على تجريد المدينة الإسلامية من هويتها وسلب أصالتها.
ويلفت إلى أن معظم الدراسات الغربية حول المدينة الإسلامية انطلقت من فكرة عالم الاجتماع الألماني البارز "ماكس فيبر" في أمر افتقار المدينة الإسلامية للاستقلال، ولم يتم التحرر من هذا المفهوم إلا في القليل من الدراسات التي وصلت لنتائج مختلفة في تناول التقسيمات الطبقية الشائعة، وركزت على إبراز مستويات من التاريخ الاجتماعي فيها بشكل واضح.
ويستعرض المؤلف مختلف أشكال التحديث المؤسسي الذي مرت به المدن العربية ونظريات تناول هذا التحديث في دراسات علم الاجتماع، مؤكداً أن الأنظمة السياسية التي ورثت الاستعمار كانت أقل اكتراثاً بما يمليه العمران التقليدي والحيز القديم من المدينة.
ويؤرخ الكتاب أنماط الإصلاح والتطورات العمرانية التي عاشتها مدن القاهرة، والإسكندرية، وحلب، ودمشق، وغزة، وبغداد، وبيروت، وإسطنبول منذ القرن الـ19، في إطار خطط الإصلاح والتنظيمات التي مرت بها الدولة العثمانية وقتما كانت تحتل أغلب البلدان العربية، وبفضل هيمنتها بدلت من نفوذ المدن التقليدية لصالح عواصم أخرى.
وينتهي إلى الإشارة إلى أن بيروت لعبت دوراً حاسماً في النهضة العربية، وقطعت شوطاً بعيداً في الانخراط في الحداثة وكانت "المدينة الاستثنائية"، ربما بسبب صغرها باعتبارها مدينة أقرب إلى البلدة، الأمر الذي ساعدها في تخطي التقاليد الراسخة في مدن عربية أخرى بحيث أصبحت خلال عهد الانتداب الفرنسي واجهة غربية في المشرق.
ويرى زيادة أن مفهوم المدينة ظل حاضراً في نصوص الفلاسفة والمؤرخين والفقهاء والرحالة العرب، ويستدل على ذلك بما ورد في نصوص ابن خلدون وغيره، إلا أنه يعتقد أن هذا الانشغال هو أيضاً صدى لانشغال مماثل أوجدته الحضارة الإغريقية وفلاسفتها ومؤرخيها، بل إن كتابات الفارابي عن المدينة الفاضلة من السهل العثور على جذورها في الفكر اليوناني.
ويؤكد الكتاب أن الأفكار التي أوردها ابن خلدون عن العمران البشري وتناوله للتعاقب والتبدل الذي يُصيب الدول جاء من خبراته في معاينة الواقع، وهي التي أملت عليها ما يمكن اعتباره "نظرة تشاؤمية للتاريخ".
ويوضح أن مصطلح المدينة الإسلامية لم يتبلور إلا مع الاستشراق الذي أسدى خدمات جليلة، خصوصاً في كشف المخطوطات وتحقيقها ونشرها وتنمية الدراسات اللغوية والتاريخية.
وأسهمت تطورات دراسات الاستشراق في "عقلنة" عملية تناول المدينة التي كانت عليها الاستجابة عند نشأتها لمهام انحدرت كلها من "غايات دينية"، بينما تبنى باحثون مسلمون مهمة النظر لمصطلح المدينة الإسلامية باعتبارها "التجسيد الحرفي لتعاليم الإسلام".
ومن المفارقات التي يرصدها الكتاب أن المؤلف المسلم قد يتبنى مصطلح المدينة الإسلامية، ويرى أن وجودها منبثق من أحكام الشريعة، في حين يلاحظ أن الدارسين الغربيين الذين نحتوا المفهوم فعلوا ذلك ليحطوا من شأنها، وأدى هذا لإبراز التباين في النتائج بين الرؤيتين.
aXA6IDMuMTQwLjE4Ni4xODkg جزيرة ام اند امز