يُنظر وهْما إلى تونس، خلال عشر سنوات مضت، على أنها الدولة العربية، التي نجحت في انتقال ديمقراطي بين دول عربية شهدت ثورات.
لكن هذه الرؤية لم تترجم إلى واقع سعيد، إذ عاش التونسيون واقعا سياسيا واقتصاديا وصحيا مؤلما، بسبب هيمنة حركة "النهضة" الإخوانية على مجلس النواب، وتحكمها في الأداء الحكومي، وفقدان الشارع الثقة فيها بعد سنوات من مشاركتها في حكم البلاد، والضعف الذي اعترى كل مناحي الحياة في تونس، الأمر الذي استدعى الرئيس قيس سعيّد إلى تجميد اختصاصات البرلمان وإعفاء رئيس الحكومة من مهامه، على أن يتولى هو بنفسه السلطة التنفيذية بمعاونة حكومة يعين رئيسها، فضلا عن رفع الحصانة عن النواب، وترؤسه النيابة العامة.
وجاء بين أهم العوامل، التي دعمت قرارات الرئيس لتصحيح المسار وإنقاذ تونس، أن الشعب ينظر إلى ما قام به "سعيد" على أنه حركة خلاص من حكم فوضوي لم يُفض إلا إلى إغراق البلاد في الديون والفساد، وأن القرارات جاءت منسجمة مع الهبّة الشعبية الطامحة إلى كنس منظومة حكم حركة "النهضة"، إحدى زعانف التنظيم الدولي للإخوان، والتي أظهرت زُورًا في سنوات تلت ما سُمي "ثورة الياسمين" أنّها القوة الوحيدة الفعلية والمنظمة في تونس، في حين أنها تحمل مشروعها الخاص، الذي يتناقض مع المشروع الوطني لتونس وغيرها من الدول.
الواقع يقول إن "النهضة" فقدت شعبيتها وعادت إلى حجمها الحقيقي، وأظهر استطلاع للرأي العام في تونس تأييد 87% من الشعب قرارات الرئيس، فلم يكن يعني الشباب الذين تظاهروا ومهدوا لقرارات "سعيد" توصيف ما جرى على أنه انقلاب أو حركة تصحيح من داخل الدستور، أو تعطيل له، إنما كانوا وهم يتظاهرون ينظرون إلى سجل "النهضة" من الفشل خلال عشر سنوات من العجز عن مساعدتهم وتحسين حياتهم، وتركهم يواجهون غلاء المعيشة وزيادات الأسعار التي لا تتوقف.
دعوة "الغنوشي" لأنصاره مغادرة موقع اعتصامهم أمام البرلمان والعودة إلى التهدئة ناجمة عن قراءة سريعة للأحداث وتطوراتها وانعكاساتها، فالاحتكام إلى الشارع قد يولد قوة اجتماعية جديدة مؤيدة للرئيس، أي إلى شرخ مجتمعي قد يقود إلى العنف، لا سيما بعد فشل "النهضة" في الترويج لفكرة "عسكرة التحركات الأخيرة" لكسب التعاطف داخليا وخارجيا، وأن دعوات الحوار مع الإخوان كانت التفافا لإنتاج الحركة بوجه جديد.
من هنا لجأت "النهضة" إلى أسلوبها التقليدي في التعامل مع الأزمات السياسية بالعمل داخل المطابخ والغرف المظلمة للوصول إلى حل لهذه المعضلة، وهو ما بدأ بتكوين جبهة لمواجهة الرئيس، والدعوة لانتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة، والتلويح بخطابين ووجهين: في الداخل مع التوافق وفي الخارج بالاعتصامات.
قرارات "سعيد" الرامية إلى مكافحة الفساد ومحاربة الفاسدين ومحاكمتهم هي عنوان المرحلة القادمة وخارطة الطريق، التي يريدها ويطالب بها الشعب، لكي تسير تونس في الطريق الصحيح، وهي بداية السقوط، وربما النهاية، لحركة "النهضة" الفاسدة وبقية الأحزاب المتحالفة معها.
فما حدث ليس انقلابا على الدستور، ويمكن ببساطة العودة إلى نصوصه الواضحة في شأن تهديد أمن الوطن، علاوة على أن قيس سعيد كان أستاذ قانون دستوري لسنوات، وما حدث ليس ثورة مضادة كما يروج الخاسرون، ربما تكون مرحلة تصحيحية لثورة انحرفت عن أهدافها وغاياتها.
كما أن عامل الوقت وتشكيل حكومة تُرضي الشارع والأحزاب، ما هي إلا استمرار للمسار الديمقراطي، وهو ما يؤرق الرئاسة التونسية حاليًا، إذ توجد فئة في المجتمع التونسي ودول بالخارج تريد تعميق الأمل في وقوع فراغ دستوري بالبلاد، لذا ينبغي على "سعيّد" ألا يخوض المعارك الجانبية، وأن يركز على إنقاذ بلاده من براثن جماعات الإسلام السياسي وداعميها داخل وخارج تونس، بشرط ألا يكون وحده في ميدان المواجهة، وهو الأمر الحاصل بالفعل على الأرض.
تحتاج تونس في هذا الوقت إلى كل دعم سياسي واقتصادي وصحي وإعلامي وفكري كي تنجح انتفاضتها ضد ظلامية المتلاعبين بالدين في ملاعب السياسة، فالشعب التونسي يريد أن تتطهر بلاده من رجس وفساد الإخوان فكريًا واقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، وأن يعيش في ظروف كريمة، وهذا حقّه، لا تهمه الاصطفافات بقدر اهتمامه بكرامته ولقمة عيشه، التي لم تكفلها له سنوات حركة "النهضة" الفاشلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة