لست من أنصار أديسون (1847 - 1931) الذي انحاز إلى الخيال، مفترضاً ابتداءً وجود المعرفة.
من يصدق أن الكاتب النرويجي جوستاين غاردر (ولد في 1952) كتب كتاباً للأطفال بعنوان: «هل من أحد هناك؟»!
أعرف أن كثيرين سيغضبون لتجاهلي «عالم صوفي»، و«فتاة البرتقال» التي صدرت مطلع 2003، لكني سأرد عليهم بأن النرويجيين لم يقدروه حق قدره إلا برواية «سر الصبر»؛ والمقصود الحديث عن شجاعة الكاتب في مخاطبة القراء الأصغر سناً. ومن يدري، فربما كان غاردر من المؤمنين بقدرة خيال الطفل على التحليق بتفوقٍ واضحٍ على عقول البالغين والأكبر سناً، وهنا مربط فرسي اليوم: ما الذي يجعل جوستاين مؤمناً بقدرة الطفل على استيعاب نظرية التطور، والتاريخ الطبيعي للأرض، بل الولوج مبكراً إلى عالم أسرار الحياة؟!
في مطلع العام الجديد، دربوا خيالكم كي يكون الغد خيراً للجميع، وادعوا معي ألا تصل أبحاث الخيال العلمي ليومٍ تهاجمنا فيه الروبوتات، وترسل إلينا رسالة مفادها: مرحباً.. هل من أحد هناك؟!
بينما يصطف الكثيرون في المجتمعات الصناعية للحصول على تذاكر سينمائية لمشاهدة أفلام الخيال العلمي مصطحبين أطفالهم، تُلقن المجتمعات التي لا تزال تعتمد على الذاكرة الجمعية بنيها قصيدة أو قصة تعزز من اندماجهم في مجموعاتهم البشرية.
يرى الأب الواقف في صف فيلم الخيال العلمي أن خيال ابنه أو ابنته يتدرب الآن لفهم المستقبل، بينما يكرر الأب في المشهد الثاني على ابنه القصيدة التي يضمن بها استمرار القيمة التي تحملها القصيدة أو القصة، كي لا يبدو ابنه وحيداً حين يضحك الآخرون!
أؤمن بقوة الخيال، وأدعو لتدريبه أياً كانت الطريقة، وما زلت أيضاً ذلك المؤمن بقدرة الشعر والرواية على تجاوز مرارات الواقع، بل وتفهمها، وأحياناً ضرورتها للمضي قدماً باتجاه الحياة، لكني ألاحظ -وقد أكون مخطئاً- أن الجهود التي تقضيها شعوبنا العربية في اجترار الماضي، والتحاكم إلى رواية دون أخرى، تمنعنا من إعطاء المستقبل حقه ونصيبه في التفكير، وبالتالي الاستعداد له.
لست من أنصار أديسون (1847 - 1931) الذي انحاز إلى الخيال، مفترضاً ابتداءً وجود المعرفة، حين قال: «لكي تخترع، تحتاج إلى خيال خصب وكومة من الخردة»؛ ما أكثر الخردة في أوطاننا وأقل الاختراعات يا سيد أديسون!
والقارئ الكريم يلحظ انحيازي للخيال، مذ كتبت قبل أسابيع عن يوفال نوح هراري، ونظرته لتاريخه الموجز للبشرية، ولكني أعود اليوم إلى جيل الأدباء الذين حاولوا تطويع العلم لخدمة الأدب، فـ«حرب النجوم» و«جزيرة الدكتور مورو»، وصولاً إلى «آلة الزمن» و«الرجل الخفي»، جميعها أعمال نعرف أثرها حتى على حياتنا اليومية، لكن الذي يجهله كثيرون أنها جميعاً كُتبت بين 1895 - 1900. والأكثر طرافة ودهشة أن الكاتب البريطاني هربرت ويلز (1866 - 1946) عنون للمجموعة التي ضمت عملين آخرين بمجموعة «الرومانسيات العلمية»!
ولم يكن صاحبنا ويلز متفرداً في جنونه، فقد سبقه عالم الفلك الألماني يوهان كبلر، المتوفى سنة 1630، باكتشافه أن للكوكب مدارات، ولم يكن ذلك في بحث علمي منشور، بل في قصته الشهيرة «سومنيوم»، حينما سافر ببطل القصة إلى القمر، ليتمكن معتمداً على خيال الكاتب ونظرة الفلكي من توصيف كل شيء على القمر، حتى برد الفراغ على سطح جارنا الذي لا ينام منذ الأزل. كتب كبلر قصته قبل أن تتسابق أمريكا والاتحاد السوفيتي على إنزال مواطنيهما على سطح القمر، وهو ما كان خيالاً في القرن السابع عشر الميلادي.
وإن كان النقاد قد وصفوا الشاعر الأمريكي إدغار آلان بو (1809 - 1849) بأنه «يجب ألا يترك الجمهور مع رجل مثله؛ غير مستقر نفسياً وعقلياً، يجلس في غرفة معتمة، مع غراب على بابه، وزجاجة على طاولته، وأنبوب مليء بالأفيون»، فإن أشد خصومه الكارهين لطريقة حياته العابثة المستهترة لا يستطيعون التقليل من عبقرية خياله في كتابه عن المستقبل الذي عنون له بـ«على متن المنطاد»، بل إنني أعتب على إدغار آلان بو تواضعه الشديد حين تخيل المناطيد فوق الأطلسي تتسابق بعد عشرة قرون من زمنه بسرعة تتجاوز المائة ميل في الساعة؛ الحقيقة أن ذلك قد حدث فعلاً في القرن الذي تلا وفاته مخموراً في أزقة ولاية بالتيمور الأمريكية!
بعيداً عن ذلك كله، بوسعي القول إن التقنية المتسارعة، بفضل الخيال الشجاع للمخترعين اليوم، أعطى للتقنية ميزة محاكاة خصائص المعرفة عند البشر، فمن تركيب الصوت إلى الحواسيب الذكية التي يتوقع المتشائمون -وهم محقون في أغلب الأحيان للأسف- أنها ستتركنا معشر البشر بلا وظائف في المستقبل القريب، وما دمج خصائص البشر بالتقنيات التي تحيط بنا إلا خطوة باتجاه أبحاث أكثر جنوناً وتطرفاً.
قرأت قبل شهرين أن «الوعي» هو المبحث المقبل، بعد أن انتهى البشر من المحاكاة، وأن الروبوتات ستلغي حاجة الإنسان للإنسان. يمكنك اليوم أن تدخل متاجر «أمازون»، وتنجز كل شيء دون أن تقابل إنساناً واحداً. يمكنك أيضاً أن تضبط مكنستك الكهربائية الذكية من ساعة في يدك، لتقوم بنفض البيت قبل عودتك من العمل بساعتين، لكن هذا قد يبدو عادياً، إذا توسعنا في الخيال، وتخيلنا الروبوتات تخوض الحروب، وتخطط للتخلص من الكائن الذي توسع يوماً في الخيال، حتى تمكن بيديه وبأشعاره وخيالات كتابه من فهم نفسه، ومن ثم أهدى الوعي لقاتله بيديه!
في مطلع العام الجديد، دربوا خيالكم كي يكون الغد خيراً للجميع، وادعوا معي ألا تصل أبحاث الخيال العلمي ليومٍ تهاجمنا فيه الروبوتات، وترسل إلينا رسالة مفادها: مرحباً.. هل من أحد هناك؟!
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة