في حلب، لم يتحرك «المشاهد» المتخم بالصور الفظيعة. لم يعن بث الصور ورسائل الاستنجاد والحضّ على رفع الحصار ووقف قتل المدنيين اي شيء
لم تكن قليلة المشاهد الآتية من حلب. غصت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بمقاطع فيديو وصور وشهادات من أرض المذبحة - المعركة بما يكفي لتوثيق كل يوم بيومه وكل غارة أو برميل متفجر وكل قتيل أو جريح. لكن رد فعل المتلقين لم يزد عن تظاهرات استنكار قليلة وعبارات أسف او شماتة.
غيبت معركة حلب، بهذا المعنى، مقولة الأثر الذي تتركه التغطيات الإعلامية على الجمهور فينقله بدوره إلى السياسيين. تبدو الجدالات حول تغطية حرب فيتنام وردود الفعل الغاضبة في العالم وفي الولايات المتحدة والإجراءات التي اتخذتها القوات الأميركية اثناء غزو العراق للحيلولة دون تكرار ما جرى بسبب نقل وقائع حروب الهند الصينية الى المشاهدين، وكأنها تنتمي الى عالم آخر.
في حلب، لم يتحرك «المشاهد» المتخم بالصور الفظيعة. لم يعن بث الصور ورسائل الاستنجاد والحضّ على رفع الحصار ووقف قتل المدنيين اي شيء لا للسياسيين الذين تحركهم مصالح وجداول اعمال، ولا «للمواطن» - الكائن السياسي الحامل قيم حقوق الإنسان والديموقراطية والحرية المفترضة - في الغرب. أعلن ذلك، «الذوبان الكامل للإنسانية» وفق كلمات مراسل غربي في حلب. والأهم انه اعلن عن الأزمة الخانقة التي تمر بها الحداثة بصيغتها الليبرالية الديموقراطية في الغرب وفي العالم.
يضاف الى ذلك صعود نوع جديد من الأخلاق في التعامل مع الآخر. أخلاق الفرجة اذا جاز القول. تقوم هذه على فصل كامل بين ما تحمله الصور ومقاطع الفيديو وبين المتلقي الذي لا تعنيه الصورة في شيء. انتهى عصر التفاعل وبدأ زمن الفرجة السلبية.
ربما أدت المشهديات الضخمة في افلام الحركة وفي ألعاب الفيديو الإلكترونية الحافلة كلها بمناظر الموت والقتل والدمار والتي يقيم المشاهد بينه وبينها حاجزاً لعزل اثرها النفسي فيه وتحييد قوتها باعتبارها مجرد خيال وتمثيل وألعاب رقمية، الى انزياح هذا الفصل العميق بين الواقع وبين الخيال الى تبلد الشعور وغياب رد الفعل الإنساني بالتضامن مع من تقع عليه اعمال عنف وتوحش. وربما، بالعكس، ذهبنا بعيداً في دمج الواقع بالخيال الى الحد الذي اتحدت فيه استجابتنا او عدم استجابتنا بالأحرى، لما نراه فلم نعد نميز بين قتلى حلب وأطفالها وبين صور الجثث والدماء في ألعاب الفيديو وأفلام الحركة.
ثمة تجارب ميدانية عن اهمال الناس لطفل ضائع يطلب المساعدة من المارة في شارع مدينة كبيرة. يسير الكثر قربه من دون التفات او اهتمام، الى ان يظهر شرطي او فاعل خير (او شر في احيان كثيرة) وينجد الطفل. في عالمنا الواقعي، تقاعد الشرطي وانسحب ولم يبق غير المعتدين على الأطفال وشذاذ الآفاق يقتربون من اطفال حلب الضائعين. فيما يتذرع المارة غير المبالين بالانشغالات اليومية وهموم الحياة الثقيلة وعدم الرغبة في التورط في مسألة الطفل الضائع. انها، مرة جديدة، اخلاق الفرجة. اخلاق المنسحبين من اية مسؤولية عامة بحجة عبء المسؤوليات الخاصة بعدما غابت عن بصائرهم اي صلة بين الخاص وبين العام.
لم يترك العالم حلب تسقط في هذه المأساة الرهيبة بسبب نقص في الوسائل وحسابات المصالح السياسية المتناقضة والخشية من الخسائر المادية والبشرية فحسب، بل تركها ايضاً لانعدام المعنى في اي شيء يعرض عليه بعدما تعرضت القيم التأسيسية التي قامت عليها المؤسسات التي توحد البشر الى ضربات قاضية. وها هم وحوش من اشباه البشر يملون علينا ألا نهتم بغير شؤوننا الخاصة وترك العالم تحت رحمة أنيابهم ومخالبهم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة