تنمية وإصلاح ديني واستباق أمني.. ثلاثية المغرب السحرية لمواجهة الإرهاب
تبنى هذه الاستراتيجية على المقاربة الأمنية وتعتمد بُعداً اجتماعياً، كما تُركز على البُعد الروحي والديني، مع تعزيز الترسانة القانونية
على مدار نحو عقدين من الزمن، بلور المغرب استراتيجية ثلاثية الأبعاد من أجل التصدي للإرهاب وتجفيف منابعه بمختلف أشكالها، وهي الوصفة التي ظهرت نجاعتها على أرض الواقع، وأيضاً حظيت بإشادة ودعم دولي.
وتبنى هذه الاستراتيجية على المقاربة الأمنية وتعتمد بُعداً اجتماعياً، كما تُركز على البُعد الروحي والديني، مع تعزيز الترسانة القانونية، واستحضار ضرورة التنسيق الدولي لمواجهة هذا الخطر العالمي.
وللمغرب تاريخ طويل موسوم بالأمن والاستقرار، ومبني على التعايش بين الثقافات والأديان، إلا أن أحداث الحادي عشر من مايو / أيار لعام 2003، زعزعت سكون ليلة الجُمعة تلك، كما زعزعت استقرار المغاربة وأمنهم، ما تطلب تدخلاً عاجلاً وحازماً، للوقوف أمام شبح الإرهاب وتجفيف منابعه.
14 عشر شاباً، أعمارهم تتراوح ما بين 20 إلى 24 سنة، خرجوا إلى أزقة العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء، مُدججين بأحزمة ناسفة، ومتوجهين إلى كُل من فندق "فرح" ومطعم "دار إسبانيا"، مروراً بمطعم إيطالي بالقرب من "دار أميركا" ومركز اجتماعي يهودي كان مغلقا في ذاك اليوم، وانتهاء بمقبرة يهودية قديمة، وقنصلية بلجيكا. والهدف: تنفيذ مخطط دموي يستهدف هذه المناطق الحيوية.
اهتزت المدينة البيضاء، واستفاق المغاربة قبل أن يناموا على وقع حصيلة ثقيلة: 45 قتيلاً، بينهم 11 انتحارياً من المنفذين، وإصابات متفاوتة الخطورة بسبب شظايا التفجيرات التي تطايرت، ودمار في الأماكن المستهدفة، تطلب سنوات لإعادة ترميمه، وعاهات مُستديمة، لازال أصحابها يُعانون إلى اليوم.
بداية التحرك
وتحت وقع الصدمة، بدأت السلطات المعنية بأولى خطواتها لمحاربة الإرهاب في المملكة، بدأت باعتقال 3 شبان من الانتحاريين المفترضين بعدما تراجعوا عن تفجير أنفسهم وفق ما خطط له.
واعتقل حوالي 3000 شخص في حملة تمشيطية غير مسبوقة شملت مختلف مدن البلاد وأدخلتها فيما يشبه الطوارئ.
وفي أعقاب ذلك، تمت المصادقة في البرلمان على قانون مكافحة الإرهاب، واستمرت عملية تجفيف المنابع الفكرية للإرهاب، باعتقال بعدها مئات المتطرفين فكرياً. وتدشين مجموعة من مشاريع إصلاح الحقل الديني بالبلاد.
الخبير في الشؤون الأمنية، محمد اكضيض، قال إن أحداث الدار البيضاء كانت بمثابة الصدمة التي سرعت في تطوير تعامل المملكة مع التهديدات الإرهابية، ما نتج عنه بلورة خبرة صارت عابرة للحدود ومحط اهتمام دولي.
وأضاف، في حديث لـ"العين الإخبارية"، أن التحرك المغربي منذ سنة 2003، وإلى اليوم، جعله لا يتحكم فقط في الوضع الأمني داخل المغرب، بل يُحذر في الكثير من الأحيان دولاً أخرى، ويُساعدها في إفشال مخططات دموية أو توقيف إرهابيين، مثلما وقع مع فرنسا في أحداث سنة 2015.
وصفة ثلاثية
وبحسب سعيد الكحل، الباحث متخصص في التنظيمات المتطرفة والإرهاب، فإن الاستراتيجية المغربية تعتمد في شقها الأمني، على الترصد الاستباقي لتحركات الإرهابيين وأنشطتهم، الشيء الذي أسهم مراراً في تجنيب المملكة حمامات من الدم، مُعتمدة على كفاءات الأطر الأمنية وخبرتها.
وتعززت هذه القوة الأمنية للمملكة، في عام 2015، بتأسيس المكتب المركزي للأبحاث القضائية، التابع للمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، ليُساهم في الرفع من جاهزية وكفاءة الجهاز الأمني المغربي في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، ما جعلها محط اهتمام دولي.
وحتى تكون تدخلات هذه الأجهزة الأمنية مؤطرة بالقانون في ظل الاحترام الكامل لحقوق الانسان، وفقاً للاتفاقيات الدولية الجاري بها العمل، جددت المملكة ترسانتها القانونية، بإدخال مجموعة من التعديلات على قانون محاربة الإرهاب.
بالإضافة إلى القانون الجنائي الذي جرم تمويل الإرهاب وتبييض الأموال، والدعاية للتنظيمات الإرهابية وقادتها، وتجريم الالتحاق أو محاولة الالتحاق بالجماعات الإرهابية.
وكانت أحدث خطوة لتحصين سيادة المملكة وأمنها واستقرار المواطنين ومؤسساتهم، مصادقة المجلس الوزاري، وبعده الحكومة والبرلمان على قانون الأمن السيبراني، الذي من شأنه تعزيز أمن أنظمة المعلومات في مختلف المؤسسات العمومية، والشركات الوطنية.
ولا تكتفي المملكة المغربية بالمقاربة الأمنية فقط، يوضح الكحل، إذ تعمل على سد جميع الأبواب أمام هذه التنظيمات الإرهابية التي تستغل هشاشة الأفراد، لتجنيدهم في صفوفها.
فمنذ عام 2005 أطلقت المملكة بتعليمات ملكية المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، والعديد من المشاريع التنموية الأخرى التي تهدف إلى تحصين الفئات الهشة وخاصة الشباب من الاستغلال الاجتماعي.
الخطاب الديني
وأوضح أن أن الدولة ركزت جهوداً كبيرة على إعادة هيكلة الحقل الديني ومراجعة مضامين الخطاب الديني، من خلال تجديد محتويات البرامج التعليمية والتكوينية والإعلامية، وأيضاً خُطب الجمعة، بهدف مُحاصرة خطاب التطرف، ودعم الإسلام السمح المعتدل والمتسامح.
وفي هذا الصدد، وبتعليمات ملكية، تم تأسيس "معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات"، والذي يشتغل منذ سنة 2015 على تكوين ثلة من الشباب المغربي، وأيضاً أطر دينية لعدد من الدول الأجنبية، على أسس الإسلام السمح والمعتدل.
إضافة إلى ""مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة" التي تهدف إلى تأمين المجال الروحي في محيطه الإفريقي، عبر تكوين الأئمة والخطباء من عدد من الدول الإفريقية التي رغبت في الاستفادة من التجربة المغربية في محاربة التطرف والإرهاب.
وتمتد الاستراتيجية المغربية إلى الأشخاص الذين سقطوا ضحية لأديولوجيات هذه التنظيمات الإرهابية، إذ أطلقت برنامجاً يهم المعتقلين على خلفية قضايا التطرف والإرهاب، يسمى "مصالحة"، بدأ في 2017، ويهدف إلى تأهيلهم تمهيدا لإعادة إدماجهم في المجتمع.
ويتم تنفيذ هذا البرنامج الذي تشرف عليه المندوبية العامة لإدارة السجون، وفقاً لمقاربتين متكاملتين، الأولى دينية وسطية، والثانية حقوقية محضة، وذلك من خلال تعاون المندوبية مع كُل من الرابطة المحمدية للعلماء، وهي مؤسسة رسمية تضم خيرة العلماء المغربية.
وأيضا المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وهو مؤسسة رسمية تضم حقوقيين مغاربة من مختلف التوجهات السياسية.
وتستغرق كل نسخة من البرنامج من شهرين إلى ثلاثة أشهر، تبدأ بالتأهيل الفكري والديني، ثم التأهيل الحقوقي والقانوني، قبل أن تتم مُصاحبة السجناء المعنيين نفسياً، ثم مواكبتهم اجتماعياً واقتصاديا، قبل أن يتم تنظيم أعمال تطبيقية كمحاكاة تجربة التطرف والاستماع إلى شهادات الضحايا.
وفي ختام كُل نسخة، يستفيد السجناء من عفو ملكي، وذلك بعد التأكد من "تخليهم عن الأفكار المتطرفة، واحترامهم لمقدسات البلاد ومؤسسات الدولة".
مقاربة شاملة
من جهته، قال محمد بودن، المحلل السياسي ورئيس مركز أطلس لتحليل المؤشرات السياسية والمؤسساتية، إن المغرب تبنى مقاربة شاملة ويقظة للتصدي للإرهاب بمختلف مسمياته.
وأكد على أن التجربة المغربية تمكنت بفضل جهد مؤسساتي فعال واستباقي من تفكيك مئات الخلايا والجماعات التي حاولت استهداف مصالح حيوية أو أمن المواطنين وممتلكاتهم فضلاً عن المساهمة كطرف محوري في إحباط عمليات إرهابية في الخارج.
وشدد بودن، في حديث لـ"العين الإخبارية"، على أن هذا التراكم الهام أثمر نموذجاً يمكن الاستفادة منه، ومكن المغرب للمرة الثالثة على التوالي من الرئاسة المشتركة للمنتدى العالمي للإرهاب إلى جانب كندا (في الولايتين السابقتين كان إلى جانب هولندا)، ناهيك عن كون المملكة عضوا نشطا في التحالف الدولي ضد داعش.
وأوضح أن المغرب كرس اسمه كفاعل دولي ملتزم بمكافحة الإرهاب والتطرف العنيف، وكأحد الشركاء الأساسيين في المبادرات الدولية للتصدي للارهاب من خلال انكبابها على تعزيز التدابير الأمنية، فضلا عن سياسات وطنية على المستوى الديني والاجتماعي.
بودن أشار إلى أن المغرب يحرص على التعاون الإقليمي والدولي في مكافحة الإرهاب وتهديداته، إذ تقوم وزارة الداخلية والمديرية العامة للدراسات والمستندات والمديرية العامة للأمن الوطني والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني والمكتب المركزي للأبحاث القضائية، بعمل استخباراتي وأمني وتنظيمي يومي، من أجل حماية الإنسان من التهديدات الإرهابية.
كما أنها تضع خبرتها في إطار التعاون لدعم جهود الشركاء الدوليين للمغرب. وهنا يمكن أن نستحضر مساهمة المغرب في تفكيك واحباط خلية ارهابية مؤخرا باسبانيا، وفق بودن.
وأضاف أن المغرب لا يعتمد فقط على التدابير الأمنية فقط بل يقوم كذلك بتطوير مستمر لمنظومة يقظة وجهوزية تعمل على توقع المخاطر و التهديدات، كما يعمل على التصدي للمحتويات المتطرفة في الفضاء السيبراني، ويدعم مبادرات الاستقرار في العالم.
ولفت إلى أن "هذه معالم نجاح هذه الاستراتيجية، الحفاظ على الاستقرار والأمن في البلاد، من خلال تفكيك الخلايا الإرهابية قبل وصولها إلى مرحلة تنفيذ مخططاتها الإجرامية، الشيء الذي قاد المملكة إلى تفكيك أكثر من 200 خلية إرهابية منذ 2003، إما تقوم بتجنيد مغاربة للقتال في مناطق التوتر والنزاع، أو تهدف للمس باستقرار وأمن المواطنين".