محمد الخامس.. السلطان الذي قلب أوراق الاستعمار منذ شبابه
ارتبط اسمه بشكل وثيق بتحرير المغرب من قبضة الاستعمار الفرنسي، فكان قائد المقاومة وبطل ملحمة الاستقلال.. إنه السلطان محمد الخامس.
هو محمد بن يوسف بن عبدالحفيظ بن عبدالعزيز بن محمد الأول بن محمد الرابع. سليل الأسرة العلوية التي ينتهي نسبها إلى آل بيت رسول الله.
عُرف بلباسه التقليدي الأنيق. جلباب مغربي طويل، وطربوش يستمد تصميمه من التُراث المغربي العريق.
قاد السلطان محمد الخامس المغرب في فترة حساسة من تاريخه، وترك بصمات خالدة في صفحات أمجاده؛ إذ قاد المقاومة الوطنية لانتزاع استقلال البلاد وحرية شعبها فنال لقب "أب الأمة" و"بطل التحرير".
خلط أوراق المُستعمر
كان محمد الخامس أصغر إخوته الثلاثة، وقد ولد عام 1909 بمدينة فاس المغربية، وترعرع في كنف العادات والتقاليد المغربية، وكان تعليمه على الطريقة التقليدية آنذاك.
بلغ عامه الثامن عشر، فكان أمام مسؤولية جسيمة، إذ تولى حُكم البلاد، على الرغم من كونه أصغر إخوته، كما أن سنه كان لا يتجاوز الثامنة عشرة.
عام 1927، حاول المُقيم الفرنسي السيطرة على دواليب القصر، ففرض تعيين السلطان محمد الخامس مكان والده الذي توفي، ظناً منه أن صغر سنه سيُمكنه من السيطرة عليه وعلى توجهاته.
إلا أن السحر انقلب على الساحر، فكان هذا الشاب الصغير، زعيماً مُقاوما، بذل الغالي والنفيس، وعرض حياته وأسرته للخطر، في سبيل تحرير بلاده.
خلط أوراق المُستعمر آنذاك، ليصطف الشاب إلى جانب أبناء شعبه المقاوم والتواق للتحرر، ومن ثم توحد العرش والشعب لطرد الاستعمار وتحرير البلاد.
دعوة من قلب فرنسا
لم يكتف السلطان محمد الخامس بدعم رجال المقاومة والتواصل معهم فقط، بل عمد أيضاً إلى اتخاذ العديد من الخطوات السياسية، التي أحرجت المستعمر الفرنسي، ووضعته في موقف ضعف أمام المنتظم الدولي.
في يونيو / حزيران من العام 1945، ومن قلب فرنسا، خلال دعوته من طرف رئيسها آنذاك، شارل ديغول للاحتفال بمناسبة نهاية الحرب العالمية الثانية، جدد السلطان مطالبه باستقلال بلاده، فكان الخطاب بمثابة إحراج كبير للمستعمر في عقر داره.
وقبل هذه الخطوة بعام، دأب السلطان المغربي على التواصل المستمر مع أبناء الحركة الوطنية، ما أثمر وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير/ كانون الثاني من عام 1944.
خُطوات إحراج المُستعمر أمام المجتمع الدولي، ظلت مُستمرة، ليُلقي السلطان محمد الخامس في أبريل/نيسان 1947 خطاباً تاريخياً من مدينة طنجة شمال البلاد، والتي كانت خاضعة آنذاك لإدارة دولية، شدد فيه على وحدة تُراب المملكة.
توتر ونفي
الدعم الكبير للمقاومة، واستمراره في إحراج المُستعمر الفرنسي، جعل العلاقة بين السلطان محمد الخامس والسلطات الفرنسية، في توتر مُتصاعد.
توتر بلغ مداه، حينما تحدى المستعمر صراحة ورفضه التوقيع على القوانين التي تصدر شكليا باسم الحاكم، الأمر الذي استفز فرنسا وأعوانها بالمغرب.
وفي أعقاب ذلك، وصلت العلاقة درجة كبيرة من الشد والجذب، وصلت إلى حد محاصرة القصر الملكي بواسطة قواتها يوم 20 أغسطس / آب من سنة 1953، مطالبة إياه بالتنازل عن العرش، الشيء الذي رفضه وشعبه جُملة وتفصيلا.
عدم انصياع محمد الخامس لأهواء المُستعمر، دفع بهذا الأخير إلى نفي الملك يوم 20 أغسطس/آب 1953 في جزيرة كورسيكا ثم أبعِد يوم 2 يناير/كانون الثاني 1954 إلى مدغشقر.
ولم تكتف السلطات الفرنسية آنذاك بنفي السلطان الشرعي للبلاد، بل عينت مكانه شخصاً آخر يُدعى ابن عرفة، كان بمثابة سُلطان صوري، وضعته السلطات الاستعمارية لتنفيذ مُخططاتها.
نفي محمد الخامس، وتعيين ابن عرفة مكانه، وتشديد التعامل مع المقاومة، كان مثابة صب النار على الزيت، لتندلع انتفاضة قوية لأبناء المقاومة مُطالبة بعودة السلطان الشرعي، وانسحاب السلطات الفرنسية من المملكة المغربية.
ومُنذ ذلك الحين، شهدت وتيرة عمليات المُقاومة المرفوقة بمُظاهرات غاضبة ارتفاعاً كبيراً، رافعة مطلب عودة السلطان وأسرته من المنفى، الشيء الذي دام حوالي سنتين، قبل أن يخضع المُستعمر ويُعيد السلطان الشرعي إلى شعبه يوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1955.
بطل الاستقلال
ثبات القيادة والشعب على مطلب الاستقلال، وعدم التواني في المقاومة من أجل ذلك، جاء بثمار سريعة، إذ عاد محمد الخامس وأسرته إلى أرض الوطن بعد عامين من النفي.
عودة كانت بمثابة الخُطوة الأولى في مسلسل استقلال البلاد، وهو المسلسل الذي كُلل بإعلان الاستقلال الفعلي للوطن من الاستعمار الفرنسي.
وفي مارس/ آذار من عام 1956 تم إلغاء معاهدة الحماية بشكل رسمي، لتحصل المملكة المغربية بذلك على استقلالها، بعد ملحمة مجيدة سطرها أبناء الشعب بقيادة السلطان محمد الخامس وأسرته.
لم ينتظر السلطان محمد الخامس كثيراً ليشرع في بناء مقومات الدولة الحديثة الديمقراطية، إذ أصدر قانون الحريات العامة سنة 1958 وأنشأ المجلس الاستشاري الذي شكل نواة البرلمان المغربي، كما شكل المجلس الدستوري الذي أعد مشروع الدستور سنة 1960.
لم تمض إلا سنوات قليلة عن تخليصه رفقة أبطال المقاومة البلاد من الاستعمار، حتى أسلم السلطان المُقاوم الروح إلى بارئها في 26 فبراير / شباط من عام 1961، وعمره لا يتجاوز 52 سنة.
لتشكل وفاته خسارة فادحة لحركة المقاومة والتحرير بالبلاد، وعموم الشعب المغربي، خاصة أنه كان أحد أبرز أقطاب حركة التحرر الوطني ورمزا لكفاح الشعب من أجل الظفر بالاستقلال والكرامة والتقدم.
رحل السلطان محمد الخامس عن الدنيا، بعد مسيرة حافلة في خدمة الوطن، بدأت بمُقاومة المُحتل ومرت بتحرير البلاد، لتنتهي باعتماد أول دستور في تاريخ المغرب المُستقل.
بعد وفاته، سلم أبو الأمة مشعل قيادة الوطن إلى رفيقه في الكفاح ضد المُستعمر، ابنه الحسن الثاني، الذي رسخ أسس الدولة الحديثة وأطلق مسيرة تنمية البلاد والحفاظ على استقرارها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
ووفق نفس النهج الرصين، لا يزال وارث السر المجيد، العاهل المغربي الملك محمد السادس، الذي يسير على نفس الدرب، مواصلاً بناء المغرب الحديث، وقيادته ليلحق بمصاف الدول الكبيرة.
aXA6IDMuMTQ0LjEwNi4yMDcg
جزيرة ام اند امز