أشرنا في مقال سابق إلى أن الشركاء التجاريين الأساسيين للولايات المتحدة "الصين وكندا والمكسيك وألمانيا وفرنسا وغيرهم" قد يتفقون على موقف جماعي موحد ضد سياسة الحماية التجارية التي يتبناها الرئيس الأمريكي ترامب
أشرنا في مقال سابق إلى أن الشركاء التجاريين الأساسيين للولايات المتحدة "الصين وكندا والمكسيك وألمانيا وفرنسا وغيرهم" قد يتفقون على موقف جماعي موحد ضد سياسة الحماية التجارية التي يتبناها الرئيس الأمريكي ترامب، وذلك عند التئام قمة مجموعة العشرين في مدينة هامبورج الألمانية يومي 7 و8 يوليو المقبل. إلا أن الواقع يتجاوز مثل هذا الموقف الأحادي البسيط إلى تعقيد أكبر يتمثل في وجود خلافات كبرى أيضا بين هذه الجبهة التي تبدو موحدة من الدول حول حرية التجارة والاستثمار.
وتصل الخلافات من حيث العمق لتتغلغل داخل ما يعد عمليا طرفا واحدا في مجال التجارة الدولية مثل الاتحاد الأوروبي. فقبيل انعقاد قمة الاتحاد الأوروبي يومي الخميس والجمعة 22 و23 يونيو، أكد الرئيس الفرنسي ماكرون على أنه دافع دوما عن العولمة وحرية التجارة أثناء عمله كوزير، لكن الزعماء يجب أن يستمعوا إلى العمال المتضررين من العولمة. وذكر ماكرون أنه يسعى لإقناع أوثق حلفاء الصين في أوروبا بأن كبح استحواذ الشركات الصينية على صناعات استراتيجية أوروبية هو في مصلحتهم، محذرا الحكومات في دول الاتحاد الأوروبي من أن تكون ساذجة في مجال التجارة العالمية. وأردف أن حرص الدول على أن تكون مقصدا جذابا للاستثمار لا يعني تعريض أوروبا لما سماه "فوضى العولمة"؛ إذ ترفض الاقتصادات الأصغر حجما في شرق وجنوب أوروبا، والتي تعتمد على الاستثمارات الصينية، أية خطوات ضد بكين كونها المستفيد الأكبر من هذه الاستثمارات. وهنا نجد أن موقف ماكرون، خاصة فيما يتعلق بالعمال المتضررين من العولمة، يبدو قريبا من المنظور الحمائي الذي يتبناه الرئيس الأمريكي. بل يبحث الاتحاد الأوروبي حاليا بالفعل في تقوية إجراءاته المضادة للإغراق السلعي. وقد دأب ماكرون في السابق على القول بأن الاتحاد بحاجة لأن يمتلك القدرة على التدخل بشكل أكثر سرعة عندما يواجه بشركات أجنبية تهدد الوظائف بإغراق سلع مثل الصلب (وهي بالأساس شركات صينية) في أوروبا.
ترفض الاقتصادات الأصغر حجما في شرق وجنوب أوروبا، والتي تعتمد على الاستثمارات الصينية، أية خطوات ضد بكين كونها المستفيد الأكبر من هذه الاستثمارات
ومن الواضح أننا إزاء مفارقة تتمثل في سعي بعض الاقتصادات الصاعدة الناجحة، كالصين (التي يحكمها بالمناسبة حزب شيوعي وتسيطر الدولة على بعض أهم الشركات الكبرى فيها) للحفاظ على قواعد لعبة التجارة الدولية كما هي معروضة نظريا، أي استنادا إلى القدرات التنافسية النسبية لكل دولة!!. بينما لا ترغب بعض القوى الاقتصادية الكبرى في الاستجابة للتغير النسبي المستمر الحادث على أرض الواقع في موازين القوى الاقتصادية. فالصين استطاعت تحقيق النجاح تلو الآخر بفضل تلك القواعد، بل في أحيان كثيرة بفضل إجادتها للمراوغة والتحايل على تلك القواعد، وكما فعلت قبلها كل القوى الغربية تقريبا. وما زال أمام الصين مجال مفتوح لتحقيق المزيد من النجاح بالاستعانة بتلك القواعد نفسها. لذا تبدو الصين الآن وكأنها الأكثر إخلاصًا لقواعد المباراة، بل بشكل يفوق إخلاص من ابتكروا تلك القواعد ونظّروا لها، الذين لم تعد المباراة بقواعدها المتعارف عليها تتناسب مع مصالحهم. إنه تجل واضح للمقولة الحكيمة للاقتصادية الإنجليزية الراحلة جون روبنسون "إن البلد الأكثر مناداة بحرية التجارة هو البلد الأكثر استفادة منها".
وتنتقل النظرة شبه الحمائية نفسها من مجال التجارة في السلع إلى مجال حرية انتقال عناصر الإنتاج على المستوى الدولي. وكانت القيود على حركة هذه العناصر تاريخيا تزيد على القيود المفروضة على حرية انتقال السلع؛ فالقيود على هجرة العمالة تكاد تكون كونية، وحتى الثمانينيات كان هناك العديد من البلدان بما فيها بعض البلدان الأوروبية، مثل فرنسا، التي تبقي على قيود على حركات رأس المال على الرغم من تبنيها واقعيا لمبدأ التجارة السلعية الحرة. كما أن الاستثمارات ذات الأصل الأجنبي للشركات متعددة الجنسيات يتم النظر لها بعين الشك وتتعرض لقواعد تنظيمية محكمة في الكثير من بلدان العالم. وسبق للولايات المتحدة، على سبيل المثال، أن أخذت موقفا رافضا لاستثمارات بعض الشركات اليابانية في الولايات المتحدة في الثمانينيات من القرن الماضي تحت دعوى رفض "شراء اليابان لأمريكا". كما أخذت موقفا رافضا لبعض الاستثمارات الصينية والعربية خلال العقد الماضي تحت دعاوى سياسية مختلفة. وكانت أوروبا قد أخذت أيضا في السابق بعض الإجراءات للحد من الاستثمارات العربية في بعض شركاتها الكبرى خلال الثمانينيات والتسعينيات، ويبدو الآن أن الدور قد حل لكي تضع المزيد من القيود أمام حرية انتقال رؤوس الأموال، خاصة من عملاق اقتصادي مثل الصين، على الرغم من حاجة بعض دولها الماسة لهذه الاستثمارات لكي تخرج من أزمتها الاقتصادية التي امتدت الآن لأكثر من 10 سنوات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة