الموت هو الحقيقة الوحيدة في حياة الإنسان.. حقيقة يصعب تقبُّلُها من الجميع.
ولا يتوقف الموت عند فراق شخص ما، قريب أو بعيد، بل نجد كثيرا من الخرافات حول الموت، فهو جدير بالأسطورة، إذ تنبعث منه صور وأحلام وأفكار ونظريات واحتمالات كلها تدل على انعدام اليقين.. إذ يمثل الموت أكبر مجهول لدى الإنسان.. فكم تمنَّى البشر هدم هذا الحاجز الذي يفصل بين الحياة والموت ومعرفة أسرار العالم الخفي، الذي يفوق خيال العقل البشري.
لعل حكمة الله أن يجعل هذا العالم غامضا على الجميع، لكن الأساطير حاولت تعويض الضعف البشري، باحثة عن تفاسير للغز الموت وما بعده، للوصول إلى حقيقة علمية حوله.. ولعل بين هذه الأساطير تقف قصة "جبل الموتى" بواحة سيوة المصرية علامة مثيرة وبارزة.
"جبل الموتى" يعتبر من أكثر الآثار الفرعونية غموضا، حيث تم اكتشافه مصادفة عام 1944م.. عندما بحث أهالي واحة سيوة عن مكان آمن للاختباء أثناء الحرب العالمية الثانية، وكانت هذه لحظة ظهور سر الجبل.
بمجرد دخول أهالي سيوة الجبل، اكتشفوا أنه عبارة عن خلية نحل عملاقة.. به فتحات عديدة تحتوي أجمل المقابر الفرعونية المليئة بمئات المومياوات، فأطلقوا عليه "جبل الموتى" أو Mountain of the Dead.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، قرر أهالي سيوة بناء بيوتهم حول "جبل الموتى".. فعاشوا واستقروا وألِفوا المكان.. لكن سرعان ما تبدلت الأحوال، لتبدأ قصة "جبل سيوة الملعون"، الذي أعلن عن أسطورة الحياة والموت، وهي أن شعب منطقة جبل الموتى "لا يزيد ولا ينقص مهما دارت الأيام والسنوات". هل هذا معقول؟!!
في جبل الموتى بمنطقة سيوة، تقول الأسطورة: "عندما يولد طفل في الصباح، يموت شيخ ليلا".
قد يعتقد البعض أنها مجرد مصادفة تتكرر لسنوات طويلة، لكن أهالي واحة سيوة متأكدون من أن الأمر يعود إلى أسطورة الحياة والموت.
ويعتبر "جبل الموتى" الجبّانة أو المقبرة الأثرية الرئيسية في واحة سيوة، التي ظهرت في العصر الفرعوني بداية من فترة أحمس الثاني، أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين "525-664" قبل الميلاد، وتقع مقبرته في "جبل الموتى" باسم "إن-بر-با-تحوت"، والتي تعني "المنتمي لبيت الإله تحوت".
كما أن منطقة "جبل الموتى" عبارة عن هضبة من الحجر الجيري ذات جزء مخروطي يحتوي مقابر النبلاء من حقب زمنية مختلفة، بدءًا من العصر الفرعوني، مرورا بالروماني ثم البيزنطي، ومن ثم توقف الدفن داخل تلك المقابر منذ ذلك الحين بعد الاعتراف بالديانة المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية.
وإلى الآن، ما زالت الحفائر مستمرة لتكشف معلومات جديدة تضاف إلى سجل "جبل الموتى".
3 آلاف مقبرة تروي قصة الإنسان بين الحياة والموت. فقد آمن المصري القديم بعقيدة البعث والخلود، فالموت في نظره لم يكن هو النهاية، بل بداية حياة جديدة لكل إنسان.. من هنا ظهرت آلاف المقابر الفرعونية في باطن "جبل الموتى"، والتي كانت تحتوي طعاما وشرابا وماء وعطورا وملابس وبرديات وذهبا وآوانيَ فخارية، وغيرها من القطع الأثرية، بما يتناسب مع تلبية احتياجات المومياوات/البشر بعد موتهم، وهذا يرجع إلى إيمانهم بوجود حياة بعد الموت وضرورة إبقاء الجسد في حالة جيدة حتى تستطيع الروح التعرف إليه حين العودة.
من خلال النقوش والكتابات الخاصة بكل مقبرة، تسرد منطقة "جبل الموتى" قصصا تاريخية مختلفة، وتُظهر أحد أهم الاكتشافات الأثرية بواحة سيوة، التي تأخذنا إلى عالم بين الحياة والموت، كما أن هناك بعض القصص لم يتم إثباتها حتى الآن، مثل تلك التي تتنبأ بوجود مقبرة الإسكندر الأكبر هناك.
ونجد مقابر "جبل الموتى" -الذي يمكنك صعوده عبر سلالم موجودة به- منحوتة على شكل خلية نحل من الحجر الجيري على هيئة صفوف منتظمة ومتتالية بشكل هندسي يشبه شكل الواحة القديم، وهو عبارة عن عدد كبير من السراديب، التي تنتهي ببهو واسع يحتوي فجوة مخصصة لدفن الموتى.
ومن أبرز تلك المقابر "مقبرة سي آمون" -الأجمل على الإطلاق- والتي تم إنشاؤها في العصر البطلمي، وتتميز بجدران خلابة مزجت بين الفن المصري القديم والفن الإغريقي اليوناني.. كما تميزت المقبرة بوجود رسومات ومخطوطات فرعونية تشرح عقيدة المصري القديم في البعث والخلود، بالإضافة إلى النقوش البارزة التي تضم رسما فرعونيا يمثل الإلهة "نات"، وهي واقفة تحت شجرة الجمّيز.. وتنتمي هذه المقبرة إلى أحد أثرياء الإغريق، ممن تبع الديانة المصرية القديمة.
كذلك نجد "مقبرة التمساح" الأصفر، والتي سُمّيت نسبة للرسوم المنقوشة عليها، تمساح أصفر يمثل الإله سوبيك، وتقف المقبرة على شكل كهف مكون من ثلاث حجرات، لكن لم يتم التعرف على صاحب هذه المقبرة حتى الآن.. فيما على جانبي المدخل، نجد صور أربعة من الآلهة بلا رؤوس، وفي يد كل منهم سكين لحماية المقبرة.
أيضا نجد "مقبرة با تحوت" -الأقدم والأكبر بجبانة "جبل الموتى"- والتي يختلف طرازها عن باقي المقابر، حيث تتميز بفناء كبير به ست حجرات، ثلاث على كل جانب، وفي نهاية الفناء يوجد مدخل حجرة الدفن.. وللأسف لا توجد نقوش في الحجرات الست ولكن على الجدار المواجه للمدخل. فقط توجد صورة للإله أوزوريس، "إله البعث والحساب"، وهو جالس على مقعد ومن خلفه الإله "تحوت" وأمامهما مائدة قرابين يقدمها صاحب المقبرة وهو في هيئة كاهن يرتدي جلد فهْدٍ ومنتعلا صندلا.
وقد دفن في هذه المقبرة الملك أحمس الثاني، وكان يعمل كاهنا في معبد الإله أوزوريس.
أما "مقبرة ميسو إيزيس"، التي تعني "مولودة إيزيس"، فمثلها مثل باقي مقابر "جبل الموتى"، تحتوي مدخلا في آخره حجرة التابوت، لكن المقبرة تم استخدامها قبل الانتهاء منها.. ويتميز مدخل حجرة الدفن بها بوجود زخرفة على شكل ثعبان "الكُبرى" منقوشا بارزا وبجانبه قرص الشمس، بالإضافة إلى ثعابين أخرى ملونة بالأزرق والأحمر.. كما يحتوي الجانب الأيمن من المدخل صورة إيزيس وأوزوريس، ورغم ذلك فإن الكتابة الفرعونية داخل هذه المقبرة توضح اسم الملكة "إيزيس" فقط.
إن أردت الاستمتاع بهذا التاريخ الأسطوري لجبل الموتى، الذي يبلغ ارتفاعه 50 مترا، كل ما عليك أن تنوي السفر صوب واحة سيوة المصرية، فالجبل يقع على بعد 2 كم منها داخل محافظة مرسى مطروح، إذ تستطيع الوصول إلى الجبل مشيًا من الواحة خلال 20 دقيقة على الأكثر، فيما يبعد الجبل عن العاصمة المصرية، القاهرة، بنحو 750 كم.. فيما يزدهر موسم الزيارة السياحية لهذه المنطقة بين شهرَي أكتوبر وأبريل، حيث يميل الطقس في هذه الفترة إلى البرودة ليلا.
"جبل الموتى" لا يحتوي مقابر تاريخية فحسب، بل مدفون بداخله أيضا كثير من الأساطير والحكايات، التي ما زال العالم يجري وراء أسرارها.. لكن يبقى ثبات عدد السكان بهذه المنطقة -340 نسمة فقط- دون زيادة أو نقصان، هو أسطورة الأساطير عبر السنوات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة