تتجه الدول الأوروبية في مجموعها لحالة عدم استقرار نتيجة ارتدادات الحرب الروسية الأوكرانية.
وهذه الحالة من عدم الاستقرار ستؤدي إلى توتر مشوب بحذر، ولن يقتصر الأمر على دول شرق أوروبا، بل سيمتد إلى دول مثل فرنسا وألمانيا، خاصة مع الرهانات الكبرى لروسيا بمزيد من عدم الاستقرار وتصاعد معدلات عدم الرضا عن السياسات الراهنة لبعض الدول الأوروبية، وارتفاع معدلات التأزم في بنية الاقتصاد الدولي، والتي تحتاج إلى مراجعات وتقييمات يمكن التعامل معها في المدَيين القصير والمتوسط.
ومن ثم فإن التنبؤ بما يمكن أن يتم مرتبط بالحالة الاقتصادية، التي تشير إلى مخاطر حقيقية، خاصة أن مواقف النظم السياسية الغربية اتسمت بقدر من الاستقرار وترسخ قواعد اللعبة الديمقراطية، إلا أن أحد مظاهر الهزة المجتمعية التي تعاني منها دول الاتحاد الأوروبي حاليا تتمثل في الحكومات غير المستقرة، والتقلبات المتسارعة التي تحتاج إلى مراجعات وليس التماهي مع هذه السياسات.
ومن الواضح أن هذا الارتباك الأوروبي من شأنه أن يولّد موجة تأثيرات خطيرة، ويحرم مزيدا من الشباب فرص العمل، ويغذي عدم الاستقرار السياسي.. فيما التكامل الاقتصادي والسياسي الأوروبي منظومة لم تكتمل بعد سنوات طويلة فشلت فيها دول القارة في تنسيق السياسة المالية التكميلية التي يمكن أن تعزز الاتحاد النقدي.
وقد وضعت دول الاتحاد الأوروبي ميزانيتها وطرحت خططها الضريبية في إطار قواعد يفترض أن تحد من الاقتراض، ما يترك البنك المركزي الأوروبي لمعالجة المشكلات الأكبر، في وقت كانت فيه موارده محدودة بالفعل في المقابل، ومن المؤكد أن لذلك العديد من الأسباب، منها ما يتعلق بالقدرة على النمو، حيث فقدت العديد من الدول قدرتها على النمو بسبب الخواص المتغيرة للاقتصاد العالمي، فقد تم الانتقال من اقتصاد يفتقر إلى معدلات كافية من الطلب، إلى اقتصادٍ عالمي يفتقر إلى معدلات كافية من العرض، حيث يشهد العالم اضطرابات في معدلات العرض، لذا يواجه النمو الاقتصادي تأثيرات معاكسة جديدة.
وقد دفع ذلك صندوق النقد الدولي لإعادة النظر في توقعاته، حيث تحول التضخم من كونه نتيجة لصدمة الطاقة والغذاء بسبب الأزمة الروسية-الأوكرانية، إلى شيء أوسع نطاقًا، ويستبعد التضخم الأساسي التقلبات التي تشهدها أسعار بعض السلع صعودا وهبوطا، وقد اختارت البنوك المركزية، والاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بالأخص، اتخاذ موقف صارم ضد التضخم، ما أسفر عن ارتفاع حاد في قيمة الدولار بنسبة تزيد على 20٪ مقابل العملات العالمية الأخرى.
لهذا، فارتفاع التضخم في جميع أنحاء أوروبا سبّب موجة احتجاجات وإضرابات، وسلط الضوء على الاستياء المتزايد من ارتفاع تكاليف المعيشة، وهدد بإطلاق العنان لعدم الاستقرار السياسي.
ففي رومانيا وفرنسا نزل المواطنون إلى الشوارع للمطالبة بزيادة الأجور بما يتماشى مع التضخم.
واحتج المتظاهرون التشيك على طريقة تعامل الحكومة مع أزمة الطاقة، ودخل موظفو السكك الحديدية البريطانية والطيارون الألمان في إضراب للمطالبة بزيادة الأجور في مواجهة ارتفاع الأسعار.
القارة الأوروبية شهدت عدة تطورات دراماتيكية، لكن الأسوأ لم يأت بعد، فالتضخم يعيد اليمين المتطرف للحكم في أوروبا ويهدد بعودة الشعبوية، خاصة مع تآكل الطبقة الوسطى وتراجع الدخول، الفوضى تعم أسواق المال البريطانية، والأسعار في المتاجر تسجل ارتفاعا قياسيا جديدا، مما يزيد متاعب المستهلكين الذين يعانون بالفعل من ارتفاع فواتير الطاقة والإسكان.
ويسيطر الارتباك وعدم اليقين على الوضع المعيشي للأوروبيين، بعد أن دهم اقتصاد الحرب مختلف نواحي الحياة، ليشعل التضخم المتصاعد وأزمة الطاقة فتيل السخط الشعبي، والخطورة أن السيناريوهات ذاهبة نحو الأسوأ في العام المقبل، وأن 30% من مستودعات الغاز الأوروبي حاليا من مصدر روسي، فمشكلات الطاقة تولد معها سلسلة مشكلات أخرى لا تتعلق فقط بكيفية التدفئة شتاءً، بل بدورة الاقتصاد كله.
وعمليا، ما يقلق أوروبا أن روسيا بالفعل بدأت حصد ثمار شراكاتها طويلة الأمد في مجال الطاقة مع أوروبا، والأمر لم يعد محصورا في فرنسا وألمانيا والتشيك وتذمر مكتوم في بولندا وبقية وسط وشرق القارة، بل يتوسع نحو أصوات احتجاجية في جنوب القارة، مثل إيطاليا وإسبانيا والبرتغال واليونان، حيث يؤدي ارتفاع أسعار الكهرباء والتدفئة إلى الاحتجاج على سياسات الحكومات.. فيما تسارع بعض تلك الحكومات نحو حلول أشبه بالفردية.
في المجمل، من المتوقع أن تتعمق أزمة الطاقة في أوروبا، ما سيتسبب في اضطرابات مالية كبيرة بحلول نهاية فصل الشتاء.. كما أن ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم سيُؤدِّيان إلى تشديد السياسات النقدية لخفض التضخم وخلق النمو، وهو ما قد يؤدي إلى الركود الاقتصادي في معظم دول الغرب في وقتٍ ما.
وقد يصبح الركود أكثر قوة إذا أوقفت روسيا تدفق الغاز إلى شمال أوروبا، لأنه سيجبر معظم الحكومات الأوروبية على تقليل استهلاك الطاقة، ما سيؤثر سلبا في النشاط الاقتصادي، ولهذا من المتوقع أن تستمر المساعي الأوروبية لمواجهة إمكانية تعرضها للتداعيات السياسية والاقتصادية المحتملة من جراء ارتفاع أسعار الطاقة، بينما تواصل روسيا تخفيض إمداداتها من الغاز إلى هذه الدول، التي ستندفع نحو تعزيز مخزوناتها من الغاز الطبيعي قبل فصل الشتاء، واتخاذ قرارات لخفض استهلاكه، وربما لتقنينه، وهو ما سيتسبب في إلحاق العديد من الأضرار بمختلف الأنشطة الاقتصادية.. إضافة إلى أنه من المرجح أن تتحول أوروبا نحو الاعتماد على أنواع الوقود البديلة للغاز الطبيعي للحد من اعتمادها على روسيا، حيث إن التدفقات المتزايدة للنفط الخام والمنتجات النفطية من آسيا والشرق الأوسط تدعم اتجاهات تحول أوروبا من الغاز إلى النفط قبل فرض حظر على النقل البحري الروسي.
الإشكالية الكبرى في أن الاضطرابات التي تشهدها أوروبا اقتصاديا ستكون لها ارتدادات ضخمة على المشهد السياسي بأكمله في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وتصميم موسكو على الاستمرار في مخططها، وفرض استراتيجية الأمر الواقع على كل الأطراف، وهنا مكمن الخطورة في ظل عدم وجود توقيت زمني لوقف، أو تحجيم، ما يجري، ومن ثم فإن كل الخيارات تمضي في سياقات تقلل الرؤية الجمعية وتبني مواقف منفردة قد تضر لاحقا بالسياسات الأوروبية في نطاق الاتحاد الأوروبي وخارجه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة