حين نحرم عقولنا من دورها الأوليّ، فلا عجب أن تحرمنا هي من نتاجها الأخير.
العقل عطية الله التي انفرد بها الإنسان حصرا عن باقي المخلوقات، دوره الرئيسي ليس التفكير المجرد، بل استخدام مدخلات من صور وتجارب وأصوات، وحتى إيماءات، وربطها ببعضها ليخرج في النهاية بفكرة.
قد يحتاج العقل ملايين المدخلات ليخرج بإنتاج واحد جديد.. ذلك لأنه لا يعمل عليها بصورتها الخام، بل يعالجها ويربطها بشبيهاتها، وهنا مربط الفرس.
تعلمت أثناء دراستي للغة أن تعلم الكلام يأتي من كثرة الاستماع، وتعلم الكتابة يأتي من كثرة القراءة.. لذا يظل الطفل مستمعا لشهور حتى يفهم الكلمات ويتعرف على اسمه وأسماء الأشياء والأشخاص من حوله، ثم بعد فترة أخرى يفهم ولا ينطق، ثم يصل أخيرا إلى نطق كلمته الأولى.
عقل الطفل ظلَّ يخزن كميات ضخمة من الألفاظ ودلالات الألفاظ ويربط الحسّي بالسمعي والبصري، حتى أنتج كلماته واحدة تلو الأخرى، دون مجهود متعمد.
وينتهج تلك المنهجية أيضًا مَن يريد تعلم لغة ثانية، والفرق يكون في تعمد فعل تلك الخطوات عن وعي ذاتي.. فلا تجد كاتبا مرموقا لا يقرأ، الكتابات في الأساس هي نتاج القراءات والخبرات والملاحظات على مدار العمر.. كاتب لا يلاحظ ولا يتفكر ولا يعالج معلوماته ولا يقرأ جديدا هو كاتب فاشل لا محالة.
هكذا يعمل العقل.. الأمر متكرر في كل مجالات الحياة، بدءا من طريقة طهي اللحم بعد اكتشاف الإنسان النار، حتى الابتكارات الحديثة في مجال "النانو تكنولوجي".
كيف أمتعنا عمر طاهر في "إذاعة الأغاني" بحكايات استمدها من طفولته وشبابه وربطها بتفاصيل دقيقة وأحاسيس عايشناها معه؟! كيف حكى "الأبنودي" مذكرات طفولته في "أيامي الحلوة" وتذكَّر كل همسة وكل شخص وكل أغنية شعبية في قريته صغيرا رغم مرور السنين؟! وكيف فعلت رضوى عاشور الشيء نفسه في "مذكرات السيدة راء"؟ أو كيف وضع "محفوظ" قوالب لأناس عايشهم وأحداث شهدها في شكل شخصيات درامية بهذا الكم من التعمق؟!
أليست الذاكرة ومعالجة البيانات هي مَن فعلت بهم كل هذا؟
الذاكرة لم تخُنهم بسبب معالجة أدمغتهم جيدا للأشياء.
الذاكرة الآن تخوننا جميعا بسبب كثرة المدخلات وقلة وقت المعالجة.. لا نعطي أنفسنا وقتا نفعل فيه شيئا ملموسا، وقت نطلق لأدمغتنا الحرية فيه لتسرح فقط.. ما ننتهي من ساعات العمل، نبدأ في مهام أخرى، وإنْ وجدنا وقتا فارغا نشعر بالذنب حين لا نفعل فيه شيئا، ونعتبره وقتا ضائعا.. وبين كل مهمة وأخرى نمسك التليفونات لنتصفح ونقرأ الغث والثمين ولا نفكر في شيء مما نقرأ، نتصفح فقط، ونبحث عن السريع من كل شيء.
يصيبنا الملل إذا طال المكتوب أو المسموع أو المرئي عن بضع دقائق، لأننا عوَّدنا أدمغتنا على الكم وليس الكيف.. فالحقيقة أن العقل يحتاج إلى هذا الوقت "الضائع" كي يعمل هو في مهامه الإنتاجية، كي تعمل ماكيناته على فلترة المواد الخام وإنتاج جديد.
إذا ملأنا المخزن بقماش ولم نعطِ العمال فرصة لتفصيله، فلن ننتج ثوبا جديدا أبدًا.
كما أسلفت، الفكرة الواحدة البديعة لن تأتي إلا بمعالجة ملايين المدخلات المتكررة يوميا.. والأدهى أن المستقبل للإبداع أصلا.. فبقلة إبداعك قد تضيّع مستقبلك كله.. الأعمال المتكررة لا سوق لها الآن.. عليك أن تتميز، ولن تتميز باللهث.. اجلس وفكّر وكوّن رأيك الخاص.. خزِّن معلوماتٍ في صورتها الأولية، وتخلّص من التفاهات، ليبقى في عقلك الشيء اللافت فقط.. ستتميز دون أن تشعر.
الموضوع أشبه بوضع ماء في كوب ممتلئ بالفعل دون تحمّل عبء إفراغه من محتوياته ليحتوي غيرها، هل سيتحمل؟ أم سينسكب الماء هباء على الأرض فيضيع وتغرق أرضية المنزل وينكسر الكوب بعد فترة من التحمل؟
أشعر كأننا نحتاج إلى التخلي عن عبارة "لا تبكِ على اللبن المسكوب!".. لأن ما ينسكب منا أصبح أكثر بكثير مما نحصّل، ويجب علينا أن ننظر لذلك المسكوب ونبكي عليه لنعي أن علينا إفراغ الكوب في وعاء آخر حتى يستوعبنا الكوب ولا ينسكب اللبن ثانية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة