البحث عن الحقيقة في تقرير مولر!
ما توصل إليه تقرير مولر سوف يكون محددا للكثير من السياسة الأمريكية خلال المرحلة المقبلة
في يوم ما سوف يكتب تاريخ الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، كما يحدث مع كل الإدارات الأمريكية، ولكن هذه الإدارة سوف يكون لها خصوصية خاصة بشخصية الرئيس الذي قلب الدنيا الأمريكية رأسا على عقب.
- قادة الديمقراطيين في الكونجرس يرفضون حجب أجزاء من تقرير مولر
- "لا تواطؤ".. أبرز نقاط تقرير مولر حول قضية التدخل الروسي
وفي العادة فإن المؤرخين يختلفون عما إذا كانت الظروف الموضوعية في دولة أو طبقة أو مجتمع أو حتى في العالم كله هي الحاكمة في حركة التاريخ، أم أن الأمر أولا وآخر له علاقة بأفراد كانت لهم من الشخصية والسمات العقلية أو البدنية التي تجعل من تصرفاتهم فارقة في تشكيل "اللحظة" التاريخية، ولكن -وعلي أية حال- فإن هذا المقال التحليلي ليس عن الكيفية التي فعل بها الرجل ذلك، فهذه قصة أخرى، ولكن القصة اليوم هي قصة التقرير الذي توقع الجميع أنه سوف يقلب حياة رئيس الدولة، ولكن النتيجة فاقت التوقعات لأنها لم تضع نهاية لقصة، ولم تضع بداية لقصة جديدة، وبقي النظر للموضوع داخل أمريكا وخارجها في حال انتظار لما سوف يفضي إليها تقرير أبقى الغموض والإثارة معا قائمين. تقرير "روبرت مولر الثالث" المعنون "تقرير في التحقيق حول التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية 2016" والصادر في شهر مارس 2019 بالعاصمة الأمريكية واشنطن من الوثائق التي سوف ينهل منها مؤرخو هذه المرحلة ليس فقط في دراسة التاريخ الأمريكي، وإنما أيضا تاريخ العالم، والتقرير صادر في مجلدين: الأول يصف النتائج التي توصل لها المحقق العام في تحقيقاته حول التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية 2016، وطبيعة التفاعلات التي جرت مع الحملة الانتخابية للمرشح الرئاسي، يظهر ذلك في شكل أقسام تخص نطاق التحقيق، والوسائل التي تدخلت بها روسيا في الانتخابات، والروابط التي تكونت بين الحكومة الروسية وأفراد من حملة ترامب، والقرار الذي اتخذه المحقق الخاص في الاتهامات المعروضة عليه. والمجلد الثاني يتعرض للأفعال التي قام بها الرئيس ترامب تجاه تحقيق مكتب التحقيقات الفيدرالية (FBI) حول التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية وما يتعلق بها من مسائل وما اتخذه من قرارات تجاه تحقيقات المحقق الخاص، مضافا لكل ذلك قسم خاص للاعتبارات التي حكمت أعمال المحقق الخاص.
من هذا الوصف، فإننا إزاء أكبر وأهم عملية تحقيق خاصة جرت في التاريخ الأمريكي المعاصر، حتى بالمقارنة بالتحقيقات الخاصة بالرئيس ريتشارد نيكسون، التي عرفت بفضيحة ووترجيت والتي بلغت ذروتها أولا بالإطاحة بالمدعي العام الأمريكي ومعه المحقق الخاص في واقعة التجسس على مقر الحزب الديمقراطي، فيما عرف بليلة "السكاكين الطويلة" (تشبها بما قام به أدولف هتلر في مطلع ولايته النازية لألمانيا مع عدد من رفاقه). هذه المرة استمر المحقق الخاص في عمله وخلص إلى النتائج التي توصل إليها حتى بعد الإطاحة بالمدعي العام، ورئيس مكتب التحقيقات الفيدرالية (جيمس كومي)، إلا أن المحقق الخاص روبرت مولر تمكن من إنجاز تقريره وتقديمه وفقا للقرار من قبل المدعي العام بتكليفه بالمهمة، التي سوف نعرضها بعد قليل، حيث يقوم "بعد أن ينتهي من عمله أن يقدم إلى المدعي العام تقريرا يشرح فيها كيف نفذ المهمة، والقرارات التي اتخذها". وكان تعيين هذا المحقق الخاص نتيجة تراكم الإعلان عن كثير من الوقائع لدى الأجهزة الأمريكية المعنية والإعلام الأمريكي أيضا، أن الحكومة الروسية تدخلت في الانتخابات الرئاسية لعام 2016 بشكل واسع ومنتظم، وظهر ذلك على السطح عندما تم الاختراق الإلكتروني للجنة القومية الديمقراطية التابعة للحزب الديمقراطي والمنظمة لحملاته الانتخابية، وتم في شهر يونيو نشر نتيجة هذا الاختراق من خلال منظمة "ويكيليكس"، وبعدها تسريبات إلى الإعلام خلال شهري أكتوبر ونوفمبر، وفي شهر يوليو، وبعد نشر "ويكيليكس" اتصلت "حكومة أجنبية" بمكتب التحقيق الفيدرالي بحدوث "لقاء في مايو 2016 مع أحد مستشاري الشؤون الخارجية لحملة ترامب "جورج بابادوبلس"، الذي نقل إلى ممثل لهذه الحكومة أن حملة ترامب تلقت إشارات من الحكومة الروسية أنها يمكنها مساعدة الحملة عن طريق نشر معلومات تصيب الضرر بحملة المرشحة الرئاسية الديمقراطية هيلاري كلينتون، وفي خريف هذا العام الانتخابي فإن وكالتين فيدراليتين (المرجح هنا أنهما من وكالات استخبارية!) أعلنتا سويا أنهما توصلتا إلى أن الحكومة الروسية قامت بسرقة الرسائل الإلكترونية لأفراد ومؤسسات أمريكية بهدف استخدامها في التدخل في الانتخابات الأمريكية، وفي أعقاب ذلك قامت إدارة الرئيس باراك أوباما بفرض عقوبات على روسيا، وقام عدد من لجان الكونجرس في مطلع 2017 في بحث موضوع التدخل الروسي في الانتخابات، وإزاء ذلك كله لم تجد "السلطة التنفيذية" بدا من تعيين محقق خاص "روبرت مولر رئيس مكتب التحقيق الفيدرالي الأسبق والمشهود له بالنزاهة والقدرات"، لكي يحقق في "جهود الحكومة الروسية للتدخل في الانتخابات الرئاسية"، والبحث عما إذا كانت هناك "روابط أو تنسيق بين الحكومة الروسية وأفراد مرتبطين بحملة ترامب".
ليس من السهل تقديم عرض تفصيلي لتقرير مولر، ولكن المهم هنا أولا عرض النتيجة التي توصل إليها، وهي أنه توصل إلى أن "جهة روسية قامت بحملة في وسائل التواصل الاجتماعي أعطت تفضيلا خاصا للمرشح دونالد ترامب، بينما حملت بالسوء على المرشحة هلاري كلينتون، وكذلك فإن إحدى وكالات التجسس الروسية تدخلت في عمليات الكومبيوتر الخاصة بهيئات وموظفين ومتطوعين يعملون في حملة كلينتون من خلال نشر وثائق مسروقة. ومن ناحية أخرى فإن التحقيق اكتشف روابط متعددة بين الحكومة الروسية وحملة ترامب، وعلى الرغم من أن التحقيق وجد أن الحكومة الروسية كانت تجد في هذه الروابط ما يحقق فائدة من رئاسة ترامب، ومن ثم عملت الحكومة على تحقيق هذا الغرض، وأن الحملة توقعت الفائدة الانتخابية من المعلومات التي سرقتها الجهات الروسية، فإن التحقيق لم يجد أن "أعضاء حملة ترامب تآمروا أو نسقوا مع الحكومة الروسية في أنشطة تدخلها في الانتخابات".
ما توصل إليه تقرير مولر سوف يكون محددا للكثير من السياسة الأمريكية خلال المرحلة المقبلة، فهو يثبت بما ليس فيه شك أن الحكومة الروسية قامت بالتجسس عن طريقين: الأول "وكالة بحوث الإنترنت" التي قامت بالحملة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ومقرها مدينة "سانت بيترسبيرج"، وتتلقى التمويل من الملياردير يفجني بريجوزيهين وشركات مرتبطة بها، وجميعها على ارتباط بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. والثاني إحدى المؤسسات الاستخبارية الرسمية للاتحاد الروسي، وهي "إدارة الاستخبارات الرئيسية لرئاسة الأركان العامة في الجيش الروسي" والمعروفة بالحروف (GRU)، والتي قامت بالتجسس المباشر على حملة كلينتون ورئيسها "جون بوديستا"، إلى هنا ينتهي يقين المحقق العام بالنسبة للشق الأول من التحقيق المتعلق بالقوتين النوويتين العظميتين في العالم، وهو أن الحكومة الروسية قامت بشن نوع من "حرب المعلومات أوWarfare Information" على الولايات المتحدة. أما الشق الثاني المتعلق بالعلاقة مع أعضاء من حملة ترامب (بابا دوبلس كما أشرنا، وآخرون مثل بول مانافورت وديمتري سايمز وجيف سيشن وجاريد كوتشنر) وتداخل كل ذلك مع مصالح خاصة بدونالد ترامب، منها إنشاء برج عقاري في موسكو، فإن المحقق الخاص وجد معضلة كبرى في انطباق مفهوم "التآمر" على هذه النوعية من الاتصالات حسب ما هو موجود في القانون الأمريكي، أما "التواطؤ Collusion" الذي وردت علامات عليه فإنه ليس واردا في القانون، ومثل ذلك أيضا لا يوجد فيما يتعلق بـ"التنسيق Cocrdination" "الذي لا يوجد له تعريف محدد في القانون الفيدرالي"، فقط "المؤامرة" هي التي لها تعريف محدد وشروط محددة، وهذه لا تنطبق على ما كان من اتصالات وما جاء عليها من معلومات حتى الآن.
"حتى الآن" عبارة بالغة الأهمية، لأن التحقيق لم ينته بعد، حتى ولو كان المحقق الخاص قد انتهى من مهمته! فالقارئ للتقرير سوف يجد طوال الوقت شريطا أسود يخفي معلومات ومكتوبا عليه بالإنجليزية "Harm to Ongoing Matter أو HOM"، بمعنى أن ما هو مخفي له علاقة بتحقيقات جارية، الكونجرس طلب نسخة من التقرير دون إخفاء، وبعدها سوف يكون لكل حادث حديث، واحد منها يتعلق بالقانون والفارق بين المؤامرة والتواطؤ، والآخر بالسياسة الأمريكية والعلاقات الأمريكية الروسية. القصة لم تنته بعد!!
aXA6IDE4LjExOC4yMjYuMTY3IA== جزيرة ام اند امز