إن أزمة التطرف في أوروبا ليست جديدة، بل قديمة، ولا تنحصر في تطرف من نوع معين، فالتاريخ يذكر اتجاهات مختلفة للتطرف,
أحداث إرهابية مؤسفة واجهت أوروبا، أظهرت نفسها بلبوس الإسلام كذباً وزوراً، وعملت على تشويه سمعة المسلمين، وإظهارهم كإرهابيين ودمويين، وغذتها التيارات اليمينية المتطرفة، وظاهرة الإسلاموفوبيا، وهي تحديات تعترض طريق المسلمين في أوروبا.
إن الإرهاب بكل وضوح عنصر دخيل لا أصيل، وهذه حقيقة لا بد من التأكيد عليها، فعلاقة المسلم الأوروبي بالآخر من أبناء وطنه الأوروبي أو من إخوانه في الإنسانية أينما كانوا هي علاقة احترام، تقوم على أسس أخلاقية أساسها حب الخير للبشر، والنبي محمد ،صلى الله عليه وسلم، أرسله الله - كما في النص القرآني - رحمة للعالمين، والدين الإسلامي يقوم على تقديس حرمة النفس الإنسانية، ووضع فقهاؤنا قاعدة فقهية عظيمة تنص على أن الأصل في دماء الآدميين العصمة، استنبطوها من نصوص القرآن والسنّة، ففي الآية القرآنية قال الله عز وجل: (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا)، فالمسلم الصادق يعتقد اعتقاداً جازماً أن دينه الإسلامي ينهاه نهياً مؤكداً عن الاعتداء على أي إنسان، ويأمره بحسن المعاملة، وأن يكون قدوة للناس في أخلاقه، ويوصل رسالة الإسلام عبر تصرفاته التي تترجم جمال التعاليم الإسلامية، وقد دخل كثير من شعوب العالم في الدين الإسلامي بسبب أخلاق المسلمين الذين كانوا يفدون إليهم للتجارة، وعُرفوا بأخلاقهم وأمانتهم.
إن أزمة التطرف في أوروبا ليست جديدة، بل قديمة، ولا تنحصر في تطرف من نوع معين، فالتاريخ يذكر اتجاهات مختلفة للتطرف واجهت الأوروبيين عبر العقود الماضية، والإرهاب ليس له دين ولا ملة، وإنما يأتي من العقول الشاذة، التي تشذ في أفكارها وسلوكها، ومن النفوس القاسية المتحجرة التي ترغب في إشباع رغباتها في إراقة الدماء ولا تعرف للرحمة معنى. وتسعى التيارات المتطرفة لاستغلال نقاط الضعف لدى الشباب لاصطيادهم وإيقاعهم في أفخاخها، ويستغلون الدين كنوع من المتاجرة لتنفيذ طموحاتهم السلطوية. ومن نقاط الضعف التي يلعب على وترها المتطرفون ، ضعف الهوية وقيم المواطنة، والتي تدفع الشباب للبحث عن الهوية المفقودة، ما قد يوقعهم بالانخراط في المنظمات الإرهابية التي تعطيهم عضويات وتغريهم بالأموال والملذات في سبيل انخراطهم في العمليات القتالية والإرهابية في مناطق الصراع في العالم العربي وفي أوروبا وبقية دول العالم.
ومن وسائل مواجهة هذا الغزو الإرهابي تثبيت قيم المواطنة عند الأفراد، وهي مسؤولية ذات اتجاهين، اتجاه متعلق بالدولة والمجتمع في تهيئة الأرضية المناسبة لمختلف الأطياف لقبول الآخر وإعطائه كامل حقوقه وحرياته وعدم ممارسة أي تمييز أو عنصرية أو كراهية ضده، ما يشعره بأنه فرد مقبول في المجتمع، ويساعده على الانخراط فيه اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً، ولكن من المؤسف أنه بعد الأحداث الإرهابية التي شهدتها أوروبا برزت اتجاهات معادية للمسلمين، وتطورت لتصبح جرائم اعتداء وتمييز وكراهية، ما يمثل عقبة كؤود أمام قيم المواطنة والتسامح بين أبناء الوطن الواحد، ويضع العراقيل بين المواطن الأوروبي المسلم والجاليات المسلمة وبين إخوانهم في الوطن.
وواقع الحال يكشف عن أدوار مهمة كثيرة للمسلمين في أوروبا، فهم على سبيل المثال يسهمون في الاقتصادات الأوروبية، ولذلك فالدول الأوروبية بحاجة إليهم، ولكن بالإضافة إلى ذلك فدور المسلمين مهم أيضاً في مكافحة الخطاب الإرهابي بالقيم الإسلامية المتسامحة، لذلك ينبغي اعتبارهم شركاء في مكافحة الإرهاب، وإعطاؤهم الفرص الكافية لممارسة الأدوار التوعوية التثقيفية التي لا يستطيع غيرهم القيام بها، فالكل مجمع على خطر الإرهاب، ومتفق على ضرورة استئصاله، فالإرهاب يضرب الاقتصاد، وينشر الذعر في المجتمعات، ويحوّل الإنسان إلى كائن متوحش منزوع الرحمة والإنسانية. والقضاء على هذا المرض لا بد أن يتم بجهود منسقة، وعلى مختلف الجبهات، بما فيها الجبهات الفكرية والنفسية التي تمثّل حجر الزاوية في استقطاب الشباب نحو هاوية الإرهاب.
وفي العصر الحديث هناك الكثير من أمثلة التعايش والتضامن الإنساني في مواجهة الأزمات، فعندما شبّ حريق في أكبر مجمع تجاري في بروكسل عام 1967 ونتج عنه وفاة أكثر من 300 شخص ، تأثر الملك فيصل بن عبد العزيز الذي كان في زيارة رسمية لبلجيكا، وتبرّع بمبلغ مليون دولار لضحايا الحريق، في لفتة إنسانية أظهرت رحمة وسماحة الإسلام، وترتب عليها انبهار شعبي في بلجيكا ، وعلى رأسهم ملك بلجيكا بودوان الذي أعجب بهذا التصرف الإنساني، وأمر بإعطاء المتحف الشرقي من متاحف بروكسل للملك فيصل كهدية ليقام فيه مسجد، وليصبح بعد ذلك مسجداً ومقراً للمركز الإسلامي الثقافي، واعترفت بلجيكا بالإسلام كدين رسمي، وعاش المسلمون مع أبناء وطنهم في تعايش وتسامح.
* نقلا عن الخليج
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة