انتصار باراك أوباما في نوفمبر 2008 كان حدثًا تاريخيًا بكل المقاييس،
خلال نحو شهر تطوي الولايات المتحدة، ومعها العالم، صفحة حكم باراك أوباما.
تودع ثماني سنوات وعدت بدايتها بالكثير، لكنها تنتهي مأساوية بائسة بالنسبة لعشرات الملايين داخل أميركا وخارجها.
الحقيقة أن الديمقراطية الانتخابية، مثل ورقة اليانصيب (اللوتري)، غير مضمونة. والناخبون الأميركيون انتخبوا عبر تاريخ البلاد عدة رؤساء بغالبيات كبيرة انتهت فترات حكمهم بصور مخيبة للآمال؛ إما في خضم فضائح مالية أو سياسية مثل ريتشارد نيكسون، وإما في مستنقعات حربية مُكلفة مثل ليندون جونسون، وإما في أزمات ركود اقتصادي عجزت إداراتهم عن استشرافها أو معالجتها مثل هربرت هوفر.
عندما انتخب باراك أوباما رئيسًا في خريف 2008 صوّر كثيرون ما حدث بـ«ثورة». بأمل جديد لأميركا يعطيها جرعة من الشباب والحيوية... وكذلك التسامح والنظرة الواثقة إلى المستقبل، بعيدًا عن التزمت والعنصرية.
كيف لا.. وهو السياسي الشاب الذي لم يمضِ على دخوله مجلس الشيوخ سوى ثلاث سنوات.
كيف لا.. وهو أول رئيس أميركي أسود وأول رئيس لا يحمل اسمًا أوروبيًا.. ذلك أنه رغم أصله الأفريقي لا يتحدر من أحفاد العبيد المحرّرين، بل هو ابن أكاديمي كيني من قبيلة اللوو إحدى كبريات قبائل شرق أفريقيا.
انتصار باراك أوباما في نوفمبر (تشرين الثاني) 2008 كان حدثًا تاريخيًا بكل المقاييس، ولعل خير معبّر عن عمقه العاطفي والثقافي والآيديولوجي، يوم تنصيبه، دموع جيسي جاكسون، الذي - بخلاف مناضل آخر في سبيل الحقوق المدنية اسمه مارتن لوثر كينغ - عاش ليرى أن لون البشرة ما عاد عائقًا أمام تقدم الأميركي الأسود فوق الأرض التي تتغنى في نشيدها الوطني بأنها «أرض الأحرار ووطن الشجعان»!
جاء أوباما إلى الحكم تحت شعار «التغيير». وكان التفاؤل بقدرته على التغيير كبيرًا، والحاجة إلى ذلك التغيير أكبر. فعلى امتداد ثماني سنوات من حكم سلفه جورج بوش الابن، أخرج «المحافظون الجدد» معظم ما في جعبتهم من سياسات قاسية تمييزية توافق آيديولوجيتهم، في أعقاب إرضائهم اليمين الإنجيلي المحافظ بإطلاق يده في ملفات السياسات الاجتماعية. وبجانب الانخراط في الحروب الاستباقية والانتقامية بحجة «تجفيف منابع الإرهاب»، وتجاهل مطالب جماعات حقوق الإنسان، والجماعات المدافعة عن البيئة والمناوئة لحرية حمل السلاح الفردي، ترك بوش الابن عجلة اقتصاد السوق واحتكاراته تتحرك على هواها، وعطّل برامج الأبحاث العلمية الخلوية تحت ضغوط الجماعات الإنجيلية المحافظة المتشددة، ما أخّر منجزات التقدم الطبي لفترة ثمينة من الزمن.
أوباما، عند انتخابه، كان يشكل النقيض لكل ذلك؛ إذ بينما كان بوش ذا شخصية محلية الأفق والخلفية، كان أوباما شخصية كوزموبوليتانية عالمية المدى... فهو ليس فقط ابن كيني من عائلة مسلمة، بل كان زوج أمه آسيويًا إندونيسيًا مسلمًا، ومثله أخته غير الشقيقة. ولقد عاش ردحًا من الزمن في إندونيسيا وولاية هاواي.. الولاية الأميركية الوحيدة التي لا يشكل الأوروبيون البيض غالبية سكانها.
وفي حين كان بوش «ابن» نشأته البروتستانتية الأرستقراطية البيضاء و«أسير» مصالح كتل المحافظين دينيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، كان أوباما الشاب العصامي، الذي وإن كان درس في أرقى الجامعات، فإنه بدأ تجربته السياسية في أحياء الفقراء السود بمدينة شيكاغو، مدافعًا عنهم وساهرًا على قضاياهم.
الانطباع الأولي عن أوباما أنه كان متحمسًا، ليس فقط لفهم العالم الذي لم يكترث سلفه كثيرًا بفهمه، بل كان متحمسًا لتغييره أيضًا.. وهذا بالضبط ما خرج به كثيرون عندما استمعوا إلى خطبته الشهيرة في العاصمة المصرية القاهرة يوم 4 يونيو (حزيران) 2009.
كان أوباما، كما بدا في شهور رئاسته الأولى، يسعى إلى سياسة منفتحة تحل المشاكل من جذورها ولا تكتفي بالتعامل مع أعراضها. وحقًا خلال السنتين الأولى والثانية احتفظ بهالة المثالية والبراءة التي رافقته منذ فوزه، غير أن قوة الدفع في رئاسته أخذت تخبو وتتوقف. ومع أنه نجح في إحداث تغييرات شجاعة في الشأن الداخلي في وجه عناد خصومه الجمهوريين، فإن مقارباته السياسية الخارجية بدأت تطرح علامات استفهام حول «مثالياته» ومدى صدقيتها.
كانت هناك نكستان مبكرتان كشفتا هشاشة «مثاليات» أوباما «التغييرية»، كلتاهما تتصلان مباشرة بالعالمين العربي والإسلامي: الأولى تراجعه أمام عناد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في ملف السلام الفلسطيني - الإسرائيلي، والثانية نكوصه عن تعهداته بشأن إغلاق معسكر غوانتانامو حيث يحتجز الإسلامويون المتهمون بالإرهاب.
بعد ذلك، ارتبكت واشنطن وأعطت إشارات، بعضها متناقض وبعضها الآخر مُضلِّل، في مطلع عام 2011... ومن ثم ما عرف بـ«الربيع العربي».
ولم يطل الزمن حتى كُشف النقاب عن المفاوضات الأميركية - الإيرانية السرية في مسقط، مع أن أحدًا في تلك الفترة ما كان يتصوّر أنها ستكون حجر الزاوية في سياسة «واشنطن أوباما» تجاه العرب والعالم الإسلامي..
ما كان أحد يظن أن إيران، بملاليها وحرسها الثوري ومشانقها النشطة وتحريضها المذهبي وتوسّعها الاحتلالي المدمر، ستغدو «حليفًا» استراتيجيًا لأميركا في حرب مفتوحة ضد عدو جديد اسمه «داعش»... ظهر فجأة وسُمح له أن ينمو ويكبر ويحتل، ومن ثم، يبرّر التضحية بمئات ألوف الأبرياء وتهجير عشرات الملايين وهدم المدن وإعادة رسم الخرائط الدولية.
من ثم، إذا كان «التغيير» شعار الفترة الرئاسية الأولى من حكم أوباما، فيجوز القول إن «الانكفاء» كان فلسفة الفترة الثانية..
«الانكفاء» ليس فقط أمام إيران، التي سمحت لها واشنطن بالتحول إلى قنبلة إقليمية موقوتة، بل أيضا أمام روسيا، المنافس القديم من أيام الحرب الباردة.
أوروبا كلها تدفع اليوم ثمن زعامة فلاديمير بوتين ونهجه وسعيه الدؤوب لهدم القارة من الداخل بمعاول «حلفائه» المتطرفين والعنصريين.. الراكبين موجة العداء للاجئين والنازحين، مع تذكر أن الكرملين نفسه وراء نزوح عشرات الألوف منهم!
حتى ديمقراطية أميركا نفسها لم تعد بمأمن من طموح بوتين، وهذا ما سمعناه بالأمس من «سي آي إيه» نفسها..
الانكفاء أمام التطرف والعنصرية هو تركة أوباما الكارثية لأميركا والعالم.
* نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة