المسلمون في صربيا.. «سنجق» نموذج للتعايش يعانق الجمال
تسرقك الطبيعة الخلابة في صربيا، وتغريك بجولة بطول الأفق الممتد أمامك، لكن ما إن تدغدغ رائحة القهوة أنفك ويصدح صوت الأذان من حولك، فستدرك أنك في حضرة إقليم سنجق.
فما إن تنطلق برحلتك من مطار بلغراد إلى إقليم سنجق الذي تقطنه الغالبية المسلمة في جنوب غرب صربيا، يرافقك سحر التلال الخضراء الممتدة إلى ما لا نهاية، والسحب المتراكمة في شق الغسق المائل للحُمرة وقت الغروب.
تخبرك المرتفعات والجبال عن قصص الأولين، قبل أن تختطفك المروج المترامية على جانبي الطريق، فتستسلم لتلك اللوحة المعلقة بين السماء والأرض.
أنت ها هنا قد أدركت ركنا من الجنة على الأرض، أنت في إقليم سنجق الرابض بين دولتين صربيا والجبل الأسود، المكان الذي تكتب مساجده وكنائسه أيضا جزءا من بطاقة هويته، وبها تقول لك مرحبا في بقعة التعايش السلمي.
خصوصية
لوحة ترسمها منطقة سنجق في أحضان طبيعة ساحرة تمردت على مقاييس الجمال الكلاسيكية، فوضعت لنفسها معايير بسقف لا يدركه سوى من اختبر روعة ريشة فنان محترف متمرس بأصول الجاذبية.
يحتضنك الإقليم بكل ما فيه من دفء، ترتمي في أحضانه فيخبرك عن ماضيه وحاضره، ويسر في أذنك بأمانيه وآماله بغدٍ يدفن جروح الماضي.
إقليمٌ يدس في تفاصيلك بعضا منه، يعرض صوره فتكتشف ملامح جديدة رسمتها جهود الحكومة الصربية ورئيس البلاد ألكسندر فوتشيتش، والتي انعكست بشكل واضح على التقدم في البنية التحتية وغيرها، وتطوقك كل تلك الأماني من أجل المزيد من حقوق ما زال أهل المنطقة ينشدونها.
ستكتشف الكثير وأنت تطوي بعينيك المساجد والكنائس والمباني والأزقة والشوارع، ستسبر أغوار المكان بشراهة وكأنك تود أن تلتهم كل ذلك الجمال والتآلف بين الأديان دفعة واحدة.
موقعه يمنحه رونقا نادر الوجود؛ فإقليم سنجق مستلقي على التلال والهضاب، بينما تطوقه الجبال حتى تبدو وكأنها تحتضنه في لوحة فنية أنيقة امتزجت فيها ألوان الصخور والمرتفعات بخضرة المروج وانحدار السهول.
سنجق.. التأسيس والديمغرافية
تتقدم على مهل، فتعترضك وجوه مبتسمة تغريك بالنبش في التفاصيل وتدفعك إلى الأمام في فضولك فتغرق في التاريخ وتعْلق في شباك الخيط الأول: أول خطوة في عمق التاريخ، كيف تأسس الإقليم وعاصمته نوفي بازار؟ وما سر تركيبة سكانه الديموغرافية؟
الأسئلة ستغزوك وترفع منسوب رغبتك للاكتشاف وسيقتلك الفضول وأنت في حضرة كل ذلك الجمال وكل تلك الخصوصية.. ستهرع باحثا عن قهوة علّها تمنحك هدنة تخفف من كل ذلك الاندفاع، لكن يحدث ما لم تتوقعه، ستزيد القهوة من توقك للمعرفة.
جغرافياً، يقع إقليم سنجق بين صربيا والجبل الأسود، ويتبع الأولى سياسيا، ويضم تركيبة سكانية متعددة تجمع 600 ألف نسمة يغلب عليهم المسلمون (87%) من عدد السكان، وهؤلاء يطلق عليهم في الإقليم اختصارا اسم "البوشناق".
وكلمة سنجق تعني "العَلم" باللغة العثمانية، بل إن اسم المنطقة في الوقت الحالي مشتق من سنجق نوفي بازار، وهو تقسيم إداري عثماني سابق.
عاصمة الإقليم، نوفي بازار، تأسست بشكل رسمي عام 1461 على يد القائد العثماني عيسى بغ إساكوفتش، الحاكم البوسني للمنطقة، حين قرر تأسيس بلدة جديدة في المنطقة لتكون مركزاً حضرياً.
ومدينة نوفي بازار، الغنية بالعمارة والمآذن الشاهقة، بدأت بمسجد وحمّام عام وسوق ونُزل ومجمع سكني، لتصبح بمرور الوقت المركز الحضاري لسنجق.
وفي حين يضم سنجق 250 مسجدا، لا تتوقف عملية بناء المساجد لاسيما في فترة الاستقرار الحالية، ويضم عددا من مراكز تحفيظ القرآن خارج المدارس، ليكمل عملية ترسيخ الهوية بين الأجيال الجديدة.
وينظم دستور صربيا لعام 1990 الحياة الدينية لا سيما في المادة 41، الفقرة الأولى، التي تنص على حرية الدين، وتشمل حرية المعتقدات وأداء الشعائر الدينية، بينما اعتمدت الفقرة الثانية من نفس المادة المفهوم العلماني للدولة.
أما الفقرة الثالثة فنصت على أن المجتمعات الدينية لها الحرية في تنظيم المدارس الدينية والمنظمات الإنسانية.
القصة الكاملة
أما التاريخ فيروي القصة الكاملة، سواء أثناء حرب البلقان 1912 - 1913، حين تقاسمت صربيا والجبل الأسود أراضي سنجق مناصفة. ومع تأسيس يوغسلافيا في 1918، انصهر الإقليم في التقسيمات الإدارية الجديدة للدولة الجديدة في هذا الوقت.
لكن ملامح عدم الاستقرار عادت للإقليم بعد الحرب العالمية الثانية وفي 1980، لترسم واقعا تاريخيا صعبا، ما يعني أن سنجق وقلبه الحضاري نوفي بازار نجيا على مدار عقود، من أزمات صعبة صنعتها الجغرافيا والسياسة، وودعا معا تاريخا من المعاناة، بشكل تدريجي، نحو وضع أكثر استقرارا في الوقت الحالي.
سنجق تسكنها أغلبية مسلمة وتقع داخل دولتين ذات أغلبية مسيحية أرثوذكسية، هذا هو واقع سنجق الجغرافي والديموغرافي، لكنه لم يكن عائقا أمام الحفاظ على هوية أغلبية أبنائها المسلمين.
منظومة تعليمية متكاملة
من روضة الأطفال إلى أعلى المراحل التعليمية، يسري في عقول الأطفال والمراهقين، تعليم ذو صبغة إسلامية، وتصبح مشاهد مثل طفلة لم تبلغ ربيعها السادس، تجلس في خشوع لتقرأ القرآن في هذه المؤسسات التعليمية، معتادة.
وعلى قمة الهرم التعليمي، تتربع الجامعة العالمية في مدينة نوفي بازار، وهذه المنشأة التي تأسست عام 2002 على يد الشيخ معمر زوكارليتش المفتي العام رئيس المشيخة الإسلامية الراحل في صربيا والسنجق والبوسنة، تسعى لأن تكون مؤسسة تعليمية عالية، تجمع كافة الشعوب مع مختلف ثقافتهم وأديانهم.
كما تعتبر من أولى مؤسسات التعليم العالي التي لا تختلف بهيكلتها ونظامها التعليمي عن الجامعات العالمية الغربية، وتضم أكثر من 1500 طالب وطالبة، وعددا من الكليات التي ترفد المجتمع بالخريجين من اختصاصات متعددة.
يقول رئيس الجامعة لـ"العين الإخبارية"، إن هذا الصرح التعليمي يعتمد في منهجه الوسطية ونبذ الغلو والتطرف، مشيرا إلى أن الجامعة العالمية في نوفي بازار وعلى الرغم من أنها تابعة للمشيخة الإسلامية إلا أنها تضم عددا كبيرا من الطلاب المسيحيين.
التسامح الديني.
وغير بعيد عن الجامعة، تنتصب كلية الدراسات الإسلامية في مركز المدينة، والتي تستقطب الطلبة من الذكور والإناث، من مختلف العالم الإسلامي والعربي، وخصوصا في الدراسات العليا.
ومنذ تأسيسها، عملت الكلية- بحسب عميدها الدكتور أنور عمروفيتش، على تأهيل الأئمة وإحياء حلقات العلم في المساجد، بالإضافة إلى العديد من النشاطات العلمية والثقافية، في صرح تعليمي يوازي أفضل الجامعات الإسلامية في العالم الإسلامي.
ويقول عمروفيتش لـ"العين الإخبارية" إن أساليب التعليم في الكلية تجعلها تواكب العصر، مشيرا إلى أنها تُخرِّج سنويا عددا من الخريجين المؤهلين لأن يكونوا أعضاء فاعلين في مجتمعهم، بل وفي الدول الأوروبية الأخرى.
وأضاف أن الكثير ممن تخرجوا في الكلية عملوا في مؤسسات حكومية مختلفة بالدولة، وهو ما يعكس الانفتاح الإيجابي من قبل الدولة الصربية تجاه الإقليم ذي الأغلبية المسلمة.
وتُرسل المشيخة الإسلامية في صربيا بشكل دوري الأئمة والخريجين من كلية الدراسات الإسلامية إلى دول أوروبا الغربية، التي تعتبر موطنا للمغتربين البوشناق، ليكونوا أئمة، ويقدموا الدروس والمحاضرات، ويشاركوا في النشاطات الدينية والثقافية هناك.
ورغم هذا التطور النوعي في المؤسسات التعليمية، إلا أن الحاجة للتطوير تبقى مستمرة وقائمة في سنجق.
ويقول المفتي العام رئيس المشيخة الإسلامية في صربيا مولود دوديتش، إن التعليم والثقافة من أهم النقاط الاستراتيجية للمشيخة بوصفهما أهم الركائز للحفاظ على الهوية الإسلامية.
وأضاف في حديثه لـ"العين الإخبارية" أن التعليم في سنجق شهد تطورا مهمّا وملحوظا خلال العقدين الماضيين.
والمفتي العام في صربيا مولود دوديتش، هباه الله القدر الكبير من الحنكة الدعوية، والتقدير لدى أبناء سنجق من المسلمين والمسيحيين، حيث قضى الرجل أكثر من ثلاثة عقود في مواجهة التحديات يُعبّد فيها طرقا خالية من الكراهية بين فئات المجتمع في الإقليم.
وينقسم التعليم الإسلامي في سنجق، إلى قسمين، الأول هو الذي أنشأته وتديره المشيخة الإسلامية في صربيا، التي يترأسها حاليا المفتي مولود دوديتش، وتتخذ من نوفي بازار، مقرا لها، حيث شهد هذا القطاع تطورا ونموا كبيرا خلال السنوات الماضية.
وأفرز هذا التطور، إنشاء عدد من المدارس التعليمية لكافة المستويات في مدن سنجق الستة، بدءا من رياض الأطفال حيث يتلقى الأطفال منذ نعومة أظافرهم التعاليم الإسلامية وحب الوطن والانتماء له، مرورا بالمدرسة الثانوية التي تحمل اسم "غازي عيسى"، وصولا إلى الجامعة المعترف بها من قبل الدولة الصربية.
وتقدم هذه المؤسسات التعليمية مناهج غنية توازي المدارس والمعاهد الإسلامية في العالم العربي.
أما المستوى الثاني من التعليم في سنجق، فهو التعليم الحكومي للتربية الإسلامية في المدارس، والذي شهد تطورا ملحوظا في العقد الأخير.
وفي هذه المدارس الحكومية، يكون دور المشيخة محدودا، فهو دور رقابي وإشرافي واستشاري، فضلا عن تزويد المؤسسات التعليمية بالمعلمين المؤهلين.
المشيخة الإسلامية.. عنوان السنجق الرئيسي
ووفق المفتي العام فإنه على الرغم من هذه الجهود والتطور الذي يشهده قطاع التعليم في الإقليم، إلا أن هناك بعض العقبات التي تواجههم والتي تتمثل في المستوى المعيشي والاقتصادي للمواطنين، ومحدودية الإمكانات المادية للمشيخة الإسلامية من أجل التوسع بشكل أسرع وأوسع.
والمشيخة الإسلامية في نوفي بازار، والتي تأسست عام 1993، هي المشيخة الرسمية للمسلمين في كل أنحاء صربيا، ولمختلف الأعراق المسلمة بها.
وهي معترفٌ بها من قبل الحكومة الصربية، وتشرف أيضا على قرابة 400 مسجد في عموم البلاد.
وتتابع المشيخة جميع النشاطات الإسلامية، ومنها التعليم الديني في المناطق الأخرى غير "السنجق"، وتُعطي لهم التعليمات والتوجيهات والنصائح والإرشادات في كل خطوة تخطوها.
هوية بصرية
لـ"سنجق هوية" معمارية وبصرية أيضا، فحين تدب أقدامك في شوارع نوفي بزار لن تشعر بأي غربة، فهذه الممرات والمباني القريبة من العمارة الإسلامية ستأخذ خيالك في سفرة سريعة تحملك إلى أزقة دمشق أو القاهرة القديمة.
ولا تكتمل زيارة سنجق، دون أن تمر على قرية "باشتر" لتستمتع بمذاق لحوم خرافها التي يتغزل فيها كل من وطئت قدماه هذه المنطقة.
ولا تكتمل أيضا دون أن تتذوق خبز "بيتيتسا" القريب من الخبز العربي، إلى جانب الجبنة والزبدة والقشطة التي تأتيك من الريف، والكباب البوشنقي.
ولأن التسوق عادة المسافرين والزائرين لأي مدينة حول العالم، لا تخرج "نوفي بازار" عن هذه القاعدة، فالتسوق فيها تجربة مختلفة، إذ يكفي أن تذهب إلى ما يُعرف لديهم بـ "البازار" يومي الأحد والثلاثاء، حتى تطفئ ظمأ سنوات من حب التسوق.
وما إن تسير في جولة على الأقدام في شوارعها الداخلية، حتى تجد ما طاب لعينك من شرائه، سواء "الجينز" الذي تشتهر بصناعته الأيادي السنجقية أو الأحذية الجلدية ومنتجات أخرى.
حيوية كبيرة تدب في إقليم سنجق في الفترة الحالية، ترسم ملامح مرحلة استقرار وازدهار، وتضمد جروحا خلفها الماضي.
آمال
روحٌ ظهرت في حديث مفتي سنجق مولود دوديتش، الذي قال في تصريحات لـ"العين الإخبارية"، إن "الأوضاع هنا في سنجق تحسنت كثيرا، والعلاقة طيبة بين المشيخة والحكومة".
وتابع "اكتسبنا الكثير من الحقوق، لكن نأمل أن يكون هناك المزيد، في ظل الوعود التي تقطعها لنا الحكومة".
حديث المفتي لا يختلف كثيرا عن رأي أهالي سنجق، إذ يبدي السكان تفاؤلا بالحكومة الصربية الحالية والأجواء الجيدة التي يعيشها الإقليم، لاستكمال البنية التحتية المهمة، مثل سكة الحديد والمطار.
وتضم الحكومة الصربية الحالية نفحات من منطقة سنجق، إذ أن وزيري التنمية الإقليمية، والسياحة والشباب، ونائب رئيس البرلمان، من المسلمين.
كما أن أيادي الإمارات حاضرة في المنطقة، وفق دوديتش، الذي أشاد بدعم الدولة السخي للمنطقة وسكانها، وبالعلاقات التي تجمعها بصربيا.
aXA6IDE4LjIyMC4xMTIuMjEwIA==
جزيرة ام اند امز