لا شك في أن عدم التوصل حتى الآن إلى اتفاق بشأن إنهاء الحرب في قطاع غزة، يزيد معاناة الشعب الفلسطيني ويفاقم الوضع الإنساني الكارثي هناك.
فرغم أهمية ومحورية البعد الإنساني في الموقف الراهن بغزة، وكونه ثمناً باهظاً يدفعه شعب غزة الأعزل، وربما يتجاوز ما تستحقه أهداف هذه الحرب على الجانبين، فإن المسار السياسي الذي ستؤول إليه الأوضاع في غزة هو الهدف والغاية النهائية التي ينبغي أن تتبلور بما يستحق ذلك الثمن.
المؤسف في الأمر، أنه لا توجد مؤشرات حتى الآن إلى الاقتراب من هذه الغاية. والسبب المباشر لهذا الوضع غير الطبيعي، أن سقف طموحات طرفي هذه الحرب (إسرائيل وحماس) أعلى كثيراً مما تسمح به إمكاناتهما.
والأخطر أن أهداف وتصورات كل منهما تتناقض جذرياً مع الطرف الآخر. وبالتالي تتضاءل بمرور الوقت فرص إيجاد اتفاق ينهي مأساة الفلسطينيين الأبرياء. والمسؤولية المباشرة عن ذلك، تقع بشكل كامل على المسؤولين والقادة سواء في إسرائيل أو في حركة حماس وغيرها من الفصائل الفلسطينية في غزة.
فقبل أكثر من شهرين، جرى طرح مشروع اتفاق لإنهاء الحرب في غزة. وتمت صياغة الاتفاق وفقاً لما قام به الوسطاء (مصر وقطر والولايات المتحدة الأمريكية) إثر مشاورات مطولة وتبادل للمقترحات بين إسرائيل والحركات الفلسطينية في غزة. وتمت مراعاة في وقت تلك الصيغة، تلافي ملاحظات الطرفين على الهدنة التي كانت نُفذت بالفعل في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
وجرت محاولات متواصلة من أجل بلورة صيغة توافقية لإنهاء الحرب. وسط اشتراطات وعراقيل يضعها كل من الجانبين لتعطيل الاتفاق أو على الأقل لتحسين شروطه.
وبينما تسير الأمور على الأرض من سيئ إلى أسوأ إنسانياً في جانب وعسكرياً في الجانب المقابل، كان للمعطيات الداخلية وموازين القوى في كل ناحية تأثير كبير على توجيه دفة التفاوض وفرص التوصل إلى اتفاق، إذ دخل الطرفان فيما يشبه السباق في التشدد وتغيير المواقف واستحداث شروط ومطالب جديدة. كما لو كان كل منهما لا يريد التوصل إلى اتفاق أو إنهاء الحرب، إذ يبدو واضحاً أن نهاية الحرب باتت تعني في إسرائيل سقوط حكومة نتنياهو ونهايته سياسياً. بعد أن فشل في تحقيق ما وعد به الإسرائيليين خصوصاً أسر الرهائن لدى حماس، وعجز بعد تسعة أشهر عن القضاء على حماس أو تصفية قدراتها العسكرية.
كما أن حكومة نتنياهو أصلاً منقسمة على نفسها وقائمة على توافق جزئي وتوازن هش. ليجد نتنياهو نفسه بين مطرقة ضرورة استعادة الرهائن عبر إنهاء حرب لا أفق لكسبها قريباً، وسندان وزراء من اليمين المتطرف يدفعونه دفعاً إلى مزيد من المغامرات العسكرية وعدم تقديم أي تنازل لحماس.
أما حركة حماس فتدرك أن ما تعرض له المدنيون الفلسطينيون من قتل وتشريد ودمار لا يمكن استعواضه بإنهاء الحرب وانسحاب إسرائيل من القطاع. فقد كانت إسرائيل خارج غزة وكانت تخشى في الأعوام الأخيرة الإقدام على أي اجتياح بري أو التوغل في القطاع. وبالتالي فإن الخسائر الفلسطينية المهولة مادياً وبشرياً وقعت نتيجة مباشرة لهجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول.
وما لم تتحصل حماس على مكسب يضمن تغيراً مستقبلياً في أوضاع الفلسطينيين داخل غزة، فضلاً عن إعادة بناء القطاع الذي دُمّر تقريباً بالكامل، فإنها ستكون قد خسرت الحرب وخسرت كثيراً من مكانتها في الداخل الفلسطيني. وهو عامل مهم للغاية في الوقت الراهن، إذ يجري تداول رؤى وتصورات متعددة لمستقبل القطاع وكيفية إدارته، وغير ذلك من أمور قد تطرق بقوة على حديد انكسار حماس وهو ساخن.
وأمام هذه الخيارات الصعبة والمتناقضة، تهرب إسرائيل وحماس من مأزق الاختيار وتبعاته، بالتشدد في المفاوضات تارة وتعديل الشروط تارة واتهام الوسطاء بتغيير البنود تارة ثالثة. حتى يكاد كل طرف ينطق بأنه ينتظر الرفض من الطرف الآخر. وإن لم يحدث ذلك يتهرب بأي وسيلة من قبول أي اتفاق أو تفاهم مهما كان متوازناً. على أمل استنزاف الطرف الآخر حتى تضعف قواه وينصاع إلى اتفاق إذعان.
وهذه الحلقة المغلقة من الاستنزاف المتبادل، يتحمل الطرفان مسؤوليتها كاملة، لكن من يدفع ثمنها ويتحمل نتائجها هم الفلسطينيون المدنيون الأبرياء وحدهم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة