هل وصلت الصحافة التقليدية (الورقية) إلى خريف العمر؟ هذا السؤال حاضر خلال السنوات العشر الأخيرة، سيما في ظل تنامي دور التكنولوجيا الحديثة في المجال الإعلامي.
من الخطأ الشائع تعليق تراجع الصحافة الورقية على شماعة انتشار المنصات الإلكترونية، وحسابات السوشيال ميديا. الجمهور المُستهدف للصحافة الورقية يختلف جذرياً عن غيره المُستهدف بالنسبة لأنماط الإعلام الإلكتروني.
اللافت في الأمر أن شريحة لا بأس بها من جمهور الإعلام الإلكتروني، أو الإعلام الحديث يتوق للصحافة الورقية، لكنه للأسف لا يجد ما يشبع غريزة التناول العميق للأحداث على الصعيدين الداخلي والدولي.
أكثر من دائرة للتدقيق
حتى يكون الأمر أكثر وضوحاً، لا بد من العروج إلى الخصائص التي تميز جمهور الصحافة الورقية أو التقليدية. يشكل كبار السن النسبة الأكبر من جمهور الصحافة الورقية، إذ تعوّدوا على هذه الوسيلة منذ سنوات طويلة، ويفضلونها على الوسائل الرقمية الحديثة، لأنهم يعتبرون الصحافة الورقية جزءًا من روتينهم اليومي، الذي يبدأ بقراءة الصحيفة مع فنجان القهوة.
يميل الأشخاص ذوو التعليم العالي، خاصة الأكاديميين والمثقفين، إلى قراءة الصحف الورقية بسبب التحليل العميق والمقالات المدروسة التي تقدمها، إذ يرون أن الصحافة الورقية توفر محتوى ذا جودة عالية يساهم في توسيع معرفتهم.
يتمتع جمهور الصحافة الورقية أيضاً بثقة عالية في الأخبار التي تقدمها هذه الوسيلة، لأنها تعتمد على مصادر موثوقة، وتمر عبر أكثر من دائرة للمراجعة الدقيقة قبل النشر.
كثير من جمهور الصحف الورقية يؤمنون بأنها تقدم أخبارًا، وتقارير أكثر حيادية مقارنة ببعض المواقع الإلكترونية التي قد تكون متحيزة أو موجهة. ويفضل بعض القراء التجربة الحسية التي توفرها الصحف الورقية، مثل ملمس الورق، وصوت تقليب الصفحة، ورائحة الحبر، ما يجعل قراءة الصحيفة تجربة ممتعة بالنسبة لهم.
أضف إلى ذلك تلعب الصحف الورقية دورًا مهمًا في تقديم الأخبار التي تهم المجتمع المحلي، لأن غالبيتها محدد بجعرافية المكان، ما يعزز شعور القراء بالانتماء لمجتمعهم.
أجراس خطر "الفجوة المعرفية"
ما سبق يؤشر بوضوح إلى عدم وجود تقاطع بين الصحافة الورقية ونظيرتها الرقمية، بل على النقيض فإن لكل واحدة محتواها الذي يتوافق مع جمهورها المستهدف، كما يدق أجراس الخطر حول "الفجوة المعرفية" التي سيخلفها اندثار هذا النمط من الصحافة.
هنا يبرز التساؤل حول أسباب تراجع زهوة الصحافة الورقية، إذا لم تكن المنصات الرقمية هي المسؤولة عن ذلك؟ الإجابة تكمن أولاً وأخيرا في"العقلية" التي تُشرف على المحتوى المُقدم لجمهور الصحف الورقية.
هل من المنطقي أن يقتصر المحتوى على أخبار تلقاها الجمهور قبل موعد توزيع المطبوعة بـ10 ساعات على أقل تقدير؟ ماذا تنتظر من قارئ تعرض عليه "أخبار بايتة"؟ أين أنماط العمل الصحفي التي تمتاز بها الصحافة الورقية؟ حتى سنوات ليست ببعيدة كان يُقال إن الصحافة تبدأ وتنتهي من الخبر.
مع توسع الصحافة الرقمية أصبحت الأخبار تملأ الفضاء الإلكتروني لحظة وقوعها، هذا الأمر يُحتم أن تغير الصحافة التقليدية "جلدها" إذا جاز التعبير، لأن استمرارها على هذا النهج يضعها في مرمى نيران أسئلة الجمهور.
أين الملفات الخاصة التي تشتبك مع قضايا المجتمع؟ أين التحليلات العميقة للقضايا محل الاهتمام الداخلي والخارجي؟ أين الحوارات الصحفية التي تحدث زلزالاً تمتد توابعه لأيام عدة؟ أين الصحافة الاستقصائية التي تخلف وراءها حالة من الجدل والزخم يمتد لأسابيع؟ أين مقالات الرأي التي توسع من مدارك الجمهور، وترفع من منسوب الوعي الجمعي؟ أين.. وأين.. وأين؟
مصطفى الكاظمي و"التريند" الورقي
المثير للانتباه، أن غالبية القائمين على أمر الصحف المطبوعة، حينما تسألهم عن مستقبل الصحافة الورقية. يستحضرون على الفور أمثلة المطبوعات التي أُغلقت تحت وطأة الثورة التكنولوجية، ويتجاهلون تماماً النماذج الناجحة للصحف المطبوعة.
لن أستشهد بالصحف العالمية مثل (فايننشال تايمز- نيوزويك- وول ستريت جورنال- واشنطن بوست)، بل سأدلل على صوابية وجهة نظري بصحيفة الشرق الأوسط، التي تكتسب يوماً بعد الآخر أرضية جديدة.
قبل نحو 5 أشهر أجرت الصحيفة السعودية واسعة الانتشار الإقليمي حواراً خصصت له صفحتين كاملتين مع رئيس وزراء العراق الأسبق مصطفى الكاظمي، في منفاه الاختياري بالعاصمة البريطانية لندن.
فور نشر الحوار الذي تضمن معلومات تُنشر لأول مرة، تحول إلى زلزال ضرب المنطقة العربية، إذ سارعت المواقع الإلكترونية المقروءة والمرئية، نشر وإعادة إذاعة مقتطفات من الحوار نقلاً عن الشرق الأوسط.
هناك أيضاً مئات الأمثلة على بعض "الخبطات" الصحفية للإعلام التقليدية لا يتسع المجال لذكرها. الأمر الذي يعيدنا إلى الحقيقة التي يتجاهلها الغالبية، حيث التكامل لا التنافس بين الصحافة التقليدية ونظيرتها الإلكترونية.
بيت القصيد.. مصارحة المريض بحقيقة الداء، أولى خطوات الدواء. غالبية هيئات تحرير الصحف المطبوعة، استسلمت لشماعة "ثورة التكنولوجيا"، ومن ثم باتت "السطحية" السمة المميزة.
ساهم أيضا في تعميق هذه الظاهرة عدم القراءة الجيدة. الصحفي الجيد يقرأ أكثر مئات المرات مما يكتب. أتذكر هنا ما قاله الأستاذ أحمد بهاء الدين، أحد أعظم رؤساء التحرير المصريين في أحد لقاءاته، حينما سُئل عن سر نجاحه في الصحافة رغم أنه خريج كلية قانون، إذ أجاب بجملته الشهيرة "لأنني قارئ محترف وكاتب هاوٍ".
*كاتب صحفي مصري
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة