تمر هذا العام الذكرى الخامسة والسبعين على تأسيس حلف شمال الأطلسي (ناتو).
ويتصادف أن تأتي هذه الذكرى في وقت شديد الأهمية، حيث يشهد العالم واحدة من أهم المراحل في تاريخه نتيجة تفاعل مستجدات وتحولات تاريخية، سواءً على مستوى تركيبة النظام الدولي بما فيها الأوزان النسبية لأطرافه الأساسية ومواقع كل منها فيه، وبالتالي ما يمكن اعتباره "ترتيب" القوى الكبرى وأهميتها وفاعليتها.
أو كذلك، على مستوى الأدوار والتحركات بين عناصر النظام الدولي ومنظومة العلاقات بين الدول الكبرى وغيرها من الدول المتوسطة والصغيرة، والتي تنعكس بالضرورة على التحالفات الدولية والإقليمية، وكذلك على تطور ومسار القضايا والأحداث الجارية في العالم بأقاليمه المختلفة.
لعل الأجيال الجديدة لا تعرف إلا قليلاً عن خلفيات تأسيس حلف شمال الأطلنطي (ناتو) نتيجة لتراجع الكثير من أهميته الاستراتيجية كما كانت في فترة الحرب الباردة، رغم أن هذا الحلف بلغ من العمر ثلاثة أرباع القرن. وأهمية التعرف على طبيعة الحلف ولماذا نشأ، هي التي تساعد كثيراً في فهم حاضره ومستقبله.
والأهم من ذلك التعرف على طبيعة العلاقة بين أعضائه، وبصفة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية في جانب، وبقية الأعضاء خصوصاً الدول الأوروبية في الجانب الآخر.
بإيجاز، تأسس حلف الأطلنطي أو حلف شمال الأطلسي (الناتو) كذراع عسكرية جماعية للدول الغربية، لمواجهة المعسكر الشرقي (الشيوعي في ذلك الوقت) بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق، الذي كانت علاقته العسكرية في حلف وارسو نسبة إلى عاصمة بولندا.
وحتى النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، كان الناتو هو الدرع الحامي للدول الغربية مما اعتبرته خطراً أيديولوجياً وسياسياً وكذلك عسكرياً للسوفيات وحلفائهم. أي أن غاية الحلف الأساسية كانت دفاعية، لتأمين أوروبا الغربية وبقية الدول الليبرالية في العالم من ذلك الخطر الأحمر المحتمل.
وخلال عقد التسعينيات، تفكك الاتحاد السوفياتي، ثم انهارت تباعاً كل مظاهر المعسكر الشرقي بأفكاره وتحالفاته، وتفككت أيضاً معظم الدول المرتبطة به. وانفردت الولايات المتحدة الأمريكية بموقع القطب الأكبر في العالم لما يقرب من عقدين متتاليين.
ورغم أن روسيا ورثت الاتحاد السوفياتي السابق ليس فقط كدولة وإنما أيضاً كتاريخ وحضارة وتوجهات ولو بشكل نسبي، فإنها لم ترث القوة الهائلة التي فقدها السوفيات تدريجياً خلال عقود الحرب الباردة مع الغرب.
وبعد ما يقرب من ثلاثة عقود على ذلك التحول الجذري في طبيعة النظام العالمي وموازين القوى فيه، لا تزال موسكو تبحث عن استعادة ذلك الرصيد المفقود. سواءً رصيد القوة العسكرية التي تراجعت وتوزعت بين عدة جمهوريات سوفياتية سابقة صارت دولاً مستقلة وبعضها تخلى عن الشيوعية والتوجهات الاشتراكية برمتها.
أو القوة السياسية متمثلة في هيبة الدولة ومكانتها كقوة عظمى في العالم. والتي تتضمن بدورها شبكات التحالفات الإقليمية ومنظومات التعاون متعدد الأطراف والمجالات، والتي كانت يوماً ما منقسمة إلى جبهتين (غربية وشرقية) وتحولت على نطاق واسع إلى منظومة شبكية واحدة كبيرة تضم الغالبية العظمى من دول العالم، وكذلك القدر الأكبر والأشمل من القضايا والملفات والمصالح.
وهي ما عرفت -ولا تزال- بموجة العولمة، كعنوان عريض ومظلة عامة حاولت من خلالها الولايات المتحدة تجميع العالم كله في إطار واحد وتوجيهه على مسار واحد، اقتصادياً وسياسياً وثقافياً.
ومع بدايات القرن الحادي والعشرين، بدأت تنحسر العولمة في مختلف المجالات، وتزامن مع عدم اكتمال تلك الظاهرة وعدم استمرارها طويلاً، بروز محاولات حثيثة من عدة دول صاعدة، للتمرد على المنظومة الغربية والإصرار الأمريكي على تشكيل العالم وفقاً لرؤاها وبما يخدم مصالحها.
كان الملمح الأبرز في ذلك التطور، هو الصعود الصيني الكبير والمتسارع، الذي بدأ اقتصادياً وسرعان ما اتسع ليشمل مجالات أخرى بما فيها تنامي القوة العسكرية وتمظهرها في أشكال وحالات كثيرة، سواءً في المجال الحيوي للصين أو في نقاط تمركز المصالح الاقتصادية لبكين عبر العالم.
وترافق مع الصعود الصيني، استعادة روسيا وجهها العالمي كقوة كبيرة في العالم، سياسياً بصفة خاصة وعسكرياً بدرجة أقل، ومساعيها الحثيثة لاسترداد وضعية القوة العظمى وبناء تحالفات وشبكات تعاون مع الدول الأخرى الساعية بدورها إلى الانفصال عن قطار الهيمنة الأمريكية والغربية بشكل أوسع.
ربما كان من مصادفات القدر أن تنشب الحرب الروسية-الأوكرانية بالتزامن مع تلك التحركات متعددة المسارات نحو كسر طوق الاحتكار الأمريكي والغربي لمقدرات الأمور في العالم. وسواءً كان نشوب الحرب لأهداف روسية ذاتية، أو استجابة لمحفزات وعوامل استثارة غربية، الحاصل حالياً أن حلف الناتو بات في وضع مواجهة غير مباشرة مع موسكو.
ورغم أن الدول الأوروبية في حلف الناتو ليس متوافقاً بشكل كامل حول تلك الحرب وأهدافها وجدواها، فإن النتيجة الطبيعية هي الحاصل من تساؤلات حول مستقبل الحلف والغرض منه. وهو تساؤل سيتصدر العلاقات الأمريكية - الغربية، في غضون أشهر قليلة. وتحديداً بعد إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، فسواء خرج الرئيس جو بايدن منتصراً أو عاد الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، سيكون مصير حلف الناتو وموقف واشنطن داخله، محور النقاش وربما الخلاف الذي قد يعيد رسم وتشكيل منظومة حلف الأطلسي عاجلاً وليس آجلاً بما يتوافق والتطورات السياسية الجديدة، التي تبدو أنها تركز على الواقعية السياسية التي تقوم على المصلحة الوطنية وترتيب العلاقات الدولية وفق هذا المنطلق وهذا السياق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة