هل يصمد "الناتو" في مواجهة أزمة الإنفاق العسكري؟
هناك طموحات أوروبية جديدة تميل إلى نزعة استقلال أوروبا عسكريا بعيدا عن الهيمنة الأمريكية.
شهدت العلاقة ما بين ضفتي الأطلسي تحولاً جذريًّا عقب وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. فقد أعاد ترامب صياغة العلاقات مع أوروبا، لتأخذ معياراً جديداً، يقوم على أساس الربح والخسارة، بينما ترى دول أوروبا أن العلاقة ما بين الحلفاء لا يكون معيارها المكسب والخسارة.
وانعكست صياغة ترامب للعلاقة مع أوروبا على حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ومدى فاعليته، تحديداً في حماية دول أوروبا من أي تهديد محتمل. وهي العلاقة التي يرى الكثيرون أن احتفال "الناتو" في لندن بمرور 70 عاماً على تأسيسه سيكون مناسبة مهمة للخروج من نفق التوتر بين واشنطن وأوروبا أو تكريس وضعية التوتر.
بداية نجد أن المخاوف الأوروبية تصاعدت في أعقاب انسحاب ترامب بشكل تام من معاهدة حظر الصواريخ النووية المتوسطة الأمد ومن معاهدات أخرى، وهو الأمر الذي أفقد حلفاء أمريكا من الأوروبيين الثقة بواشنطن إلى حد بعيد، لدرجة إلى أن عددا من زعماء أوروبا وصفوا ترامب بـ"الخصم". هذه الوضعية عكستها تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن "الناتو في حالة موت سريري".
إن المخاوف الأوروبية تزايدت عقب تهديد ترامب صراحة، خلال يونيو 2019، للحلفاء في "الناتو" بالخروج من الحلف في حال عدم إيفاء الدول الأعضاء بتعهداتها حيال النفقات الدفاعية، إلى جانب تعهد ترامب بعدم السماح للاتحاد الأوروبي "باستغلال" الولايات المتحدة، وتلميح الرئيس الأمريكي المستمر إلى أن الاتحاد الأوروبي لا يقوم بما هو كافٍ لدعم الحلف الأطلسي، ويستفيد "بشكل غير عادل" من التجارة مع الأمريكيين.
ولفهم صيرورة العلاقة بين أمريكا والاتحاد الأوروبي، نجد أن "الناتو" طالب أعضاءه بزيادة النفقات العسكرية بنسبة 2% من إجمالي الناتج المحلي، يخصص منها 20% للأبحاث والتطوير وشراء المعدات الأساسية. وتعهدت الدول الأعضاء بالفعل بزيادة نفقات الدفاع خلال قمة "وارسو" في يوليو 2016.
وأوضح أمين عام الحلف ستولتنبرج، وقتها، أنه من المنتظر أن تزيد نفقات الدفاع خلال 2016 بنسبة 3% ليصل إلى 8 مليارات دولار. ويبدو وفقاً للبيانات المتوفرة أن الدول الأوروبية في "الناتو" لم تف بتعهداتها بالنسبة لزيادة النفقات العسكرية مما دفع الولايات المتحدة إلى تحمل العبء الأكبر في زيادة نفقات "الناتو"، وهو الأمر الذي يزعج ترامب وفقا لقاعدة "الربح والخسارة" التي يقيم بها علاقاته مع العالم.
في المقابل، تعتقد الدول الأوروبية أنها تواجه تحديات أهم تستلزم توفير اعتمادات مالية ضخمة، وأنها لا يمكنها مجاراة رغبة أمريكا في زيادة النفقات العسكرية، وأن هذا الأمر قد يفاقم الوضع في دول الاتحاد الأوروبي.
نزعة استقلال أوروبا عسكريا
بعيداً عن جدلية زيادة النفقات العسكرية، هناك طموحات أوروبية جديدة تميل إلى نزعة استقلال أوروبا عسكرياً بعيدا عن الهيمنة الأمريكية. ويعود هذا الأمر إلى تباين الأولويات والأهداف وأسبقية التهديدات بين أوروبا مع واشنطن.
إن أولويات أوروبا تنصبّ حاليا على الجبهة الشرقية لـ"الناتو" وهي الجبهة التي تمثل تهديداً أكثر من واشنطن بسبب البعد الجغرافي.
وبالتوازي، تسعى دول الاتحاد الأوروبي خلال الفترة الحالية إلى إنعاش الاتحاد وإظهاره أكثر تماسكاً عبر تعزيز التعاون في مجال سياسات الأمن والاستخبارات والدفاع بعيداً عن الناتو".
لقد أدركت أوروبا أن مصلحتها لم تعد بقصر التحالف على الولايات المتحدة، وأنها تحتاج إلى بناء تحالفات جديدة مع روسيا والصين، والبحث عن مصالحها منفردة مع دول منطقة الشرق الأوسط.
في هذا السياق، تسعى الدول الأوروبية إلى التأكيد على قيم الشراكة والصداقة بين أطراف "الناتو" وعبر ضفتي الأطلسي، فيما يركز ترامب على هدف زيادة الإنفاق العسكري للحلف.
وتطالب واشنطن دول أوروبا بزيادة إنفاقها العسكري ليصل إلى 2% ثم إلى 4% عام 2024، وهو ما لا تقدر عليه دول أوروبا، وهذا قد يترجمه ترامب في تخليه عن حماية دول أوروبا من أي تهديدات من روسيا.
وحالياً، نجد أن الصورة تتبلور في أن ترامب لم يعد يعول كثيراً على حلفائه الأوروبيين، ولكن يظل الحديث عن تخلي واشنطن عن الناتو، ما زال مبطناً في تصريحات وقرارات الرئيس الأمريكي، فالتخلي عن "الناتو" والحلفاء الأوروبيين ليس بالقرار السهل بالنسبة لترامب. فهو لم يعد يبالي بأطراف الحلفاء الأوروبيين.
الخيارات المتاحة أمام أوروبا
أوروبا في الوقت الحاضر لا يوجد لها خيار سوى تلبية رغبات أو مطالب ترامب، بالتوازي مع إيجاد علاقات جديدة مع الصين وروسيا بالتوازي واشنطن، مع محاولات متواضعة لإنشاء جيش أوروبي غير قادر فعليا على مواجهة أي تهديدات استراتيجية.
وفي هذا السياق، يقول توسك، رئيس مجلس المفوضية الأوروبية: "عزيزتي أمريكا، قدري حلفاءك، فليس لك كثير منهم في نهاية المطاف"، مذكراً ترامب بأن القوات الأوروبية قاتلت إلى جانب نظيرتها الأمريكية في أفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر 2001.
وتقدر جيوش أوروبا بمليون ونصف المليون جندي، وفقا لنشرات متخصصة في الدفاع والتسليح. وهذه الأرقام أقل فعلياً من متطلبات "الناتو" الراهنة.
وفي محاولة أوروبية للتقليل من الاعتماد على الولايات المتحدة على الصعيد العسكري، وقّع أكثر من 20 دولة من الاتحاد الأوروبي، بينها ألمانيا وفرنسا، يوم 13 نوفمبر 2017 على ميثاق للدفاع ودمج التخطيط العسكري وتطوير الأسلحة والعمليات العسكرية بهدف خلق عهد جديد من التكامل العسكري على الصعيد الأوروبي لتدعيم وحدة الاتحاد، وجعله أكثر تماسكا في التعامل مع الأزمات الدولية في أعقاب قرار بريطانيا الخروج منه.
بات مرجحا أن تعزز الدول الأوروبية العشر تحالفاتها الدفاعية وهي: المملكة المتحدة، وألمانيا، وبلجيكا، والدنمارك، وإستونيا، وهولندا، وإسبانيا، والبرتغال، لتنفيذ ما تم طرحه في اجتماع باريس يوم 25 يونيو 2018. ويبدو أن فرنسا هي من تقود هذا التحالف الأوروبي. والتحالف الجديد يتضمن التخطيط، وتحليل الأزمات العسكرية والإنسانية الجديدة، والأنشطة المشتركة المحتملة ردًا على الحالات الطارئة.
ولكن تبقى دول أوروبا بحاجة إلى "الناتو" وإلى الحماية الأمريكية، وما تقوم به أوروبا في موضوع "التكامل" بين وحداتها العسكرية، لا يعد إلا خطوة متواضعة ليست كافية في أي مواجهة محتملة مع موسكو، وتحتاج أوروبا بالفعل إلى زيادة إنفاقها العسكري، ولعقود طويلة من أجل أن تصل إلى مرحلة على الأقل بهدف تأمين الحماية الوطنية أو القومية، ولكن هذا يبدو بعيداً جدًّا.
aXA6IDE4LjIyNC41OS4xMDcg جزيرة ام اند امز