يواجه حلف الناتو اختبارا عسيرا جراء ما يجري من تطورات متعلقة بالتهديدات الروسية لدول الحلف
والقضية ليست في إسقاط صاروخ على الأراضي البولندية، وإنما الأمر متعلق بما هو قادم بصرف النظر عن مسارات واتجاهات الأزمة الروسية الأوكرانية والاتجاه إلى التهدئة، أو التصعيد في الفترة الراهنة خاصة وأن الانفتاح الأمريكي الروسي، واستئناف الاتصالات المشتركة وأي كان هدفها ومبررها، فإن دول الناتو تتشكك فيما سيجري لجملة من الاعتبارات.
أولها: التخوف من امتداد العمليات، أو الاستهدافات الروسية لدول الحلف بما سيتطلب بالفعل التدخل المباشر في مسار ما سيجري بصرف النظر عن شكل أو مضمون التدخل وتوقيته خاصة وأن مبادئ الحلف تتطلب ذلك على اعتبار أن الدفاع عن أراضي دول الناتو أولوية قصوى ، وهو ما سيتطلب تنسيقا أمريكيا غربيا في ظل تطور سياسات الدفاع التي أقرتها دول الحلف منذ بدء الأزمة الروسية الأوكرانية ، والتي تعلقت بزيادة المخصصات المالية الموجهة وتخصيص أنماط من الدعم العسكري لأوكرانيا، ومن ثم فإن السياسات الأمريكية ستكون حاكمة في إطار توجيه الموقف داخل الحلف حتى مع اتباع خيار التهدئة، أو التصعيد فكلاهما سيتطلب موقفا واضحا ومحددا ، وليس نصف حل أو شبه خيار.
ثانيها: ضرورة أن تتضمن أية تفاهمات غربية روسية ولو بصورة غير مباشرة مسارا محددا في إطار التوازنات الراهنة والمحتملة والتي تعمل في مسارات متعددة، وتحتاج إلى مقاربات مختلفة خاصة وأن التهديد لدول الحلف قائم، وفي حال التخاذل عن الرد مع أي تصعيد روسي أو توقف الحوار بين دول الحلف، أو الولايات المتحدة سيبعث برسائل سلبية حقيقية على دول شرق أوروبا، وسيؤدي لمزيد من التجاذبات الحقيقية التي يمكن أن تحدث مزيداً من الانقسامات داخل الحلف في ظل دور أمريكي مرتبك، وغير واضح تعمل على توظيفه روسيا وتسعى لتكريسه على اعتبار أنها لا تريد التصعيد في مسرح عمليات جديد، ولا تريد أن تذهب إلى مواجهات خارج ما يجري مع التأكيد على خياراتها في التفاوض مع أوكرانيا ، وعدم التصعيد باعتبار أنها حققت أهدافها من العملية العسكرية وضمت المناطق الأربعة لأراضيها وحسم الأمر.
ثالثها: لم تعد هناك أية إشكالية في تأمين الفضاء الروسي الكبير، ومن ثم فإن روسيا يمكن أن تدخل في مفاوضات مع دول الحلف ومع الولايات المتحدة بشأن ما هو جار من تفاهمات، وإن كان التشكك الروسي ما زال قائما فيما يجري من محاولات لتحجيم المد الروسي، ووضع قيود على مسارات التحرك الروسي، وهو ما يدفعها للعمل مع دول الحضور الروسي ومحاولة إحياء دور معاهدة الأمن الجماعي مع التركيز على الدول الحليفة الوطيدة مثل الصين والهند وإيران، وبناء شراكات مهمة في إطارها تخوفا من أية مستجدات تتعلق بما يجري من الولايات المتحدة تجاه الصين تحديدا بعد لقاء الرئيسين الأمريكي والصيني مؤخرا في بالي.
وبالتالي فإن دول حلف الناتو ستتجه إلى تبني مقاربات متعددة في أطر محددة ومن خلال إستراتيجية تنويع التحرك والانتقال من التكتيكي إلى الاستراتيجي عبر سياسات متعددة وبهدف العمل معا تحت لواء الناتو مع الاستمرار في إستراتيجية موحدة، وهذا يعني في مجمله أنه من غير المرجح أن تؤدي أية تهديدات لبولندا أو غيرها إلى صراع بين روسيا وحلف شمال الأطلسي. ولا أحد مهتم بالمواجهة المباشرة، لكن الحادث لن يؤدي إلا إلى إجماع أقوى بشأن استمرار المساعدة العسكرية لأوكرانيا، وستكون هذه هي المرة الأولى التي تضرب فيها أرض تابعة حلف الناتو خلال حرب أوكرانيا.
رابعها: من مراقبة السلوك الأمريكي – وبرغم الانفتاح على الجانب الروسي مؤخرا فإن سياسة الولايات المتحدة تهدف لجعل روسيا تشعر وكأنها محاصرة. وهذا ما قد يشير إلى أن روسيا "حوصرت في الزاوية" بتصريحات أوكرانيا والغرب حول شبه جزيرة القرم، وتوسع الناتو، وكذلك نقل العسكريون من حلف شمال الأطلسي إلى أوروبا، وأن على الولايات المتحدة أن تفكر في طرق للخروج يتجه فعليا بالتفكير في الأمر، متخليا عن المزيد من المحاولات لوضع روسيا في الزاوية بدليل ما جرى من أن وزارة الخارجية الأمريكية كانت تمهد سراً لمفاوضات سلام محتملة بين أوكرانيا وروسيا، لكن لم تكن هناك وجهة نظر واحدة في واشنطن بشأن هذه المسألة. برغم أن أوكرانيا أصدرت قانونا يحظر المفاوضات مع روسيا. في الوقت ذاته، لم ترفض موسكو الحوار، وهي مستعدة لمواصلة ذلك دون أي شروط.
خامسها: في خضم ما يجري فإن دول الناتو ستمضي في مساراتها خاصة مع تعزيز قدراتها فالحلف يضم 30 دولة تمتلك 3 منها أضخم جيوش في العالم هي: الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا.ويعتمد الناتو ميزانية دفاع مشتركة، تضم نسبة من الدخل القومي لكل دولة من الدول الأعضاء، وتمثل الولايات المتحدة أكبر المساهمين في الناتو كما يبلغ حجم الإنفاق الدفاعي المشترك لحلف الناتو يبلغ نحو مليار و174 مليون دولار في 2022".
وتمثل هذه الميزانية إجمالي مساهمات الدول الأعضاء في الحلف، بينما تمتلك كل دولة ميزانية دفاع مستقلة خاصة بالإنفاق على جيشها. وهو ما يؤكد على إمكانيات هائلة بالفعل حيث يشمل الإنفاق الدفاعي ، تسليح جميع القوات البرية والبحرية والجوية وتدريبها، ومراكز القيادة والقوات الخاصة، وخدمات الدعم اللوجيستي، وبرغم ذلك فهناك تشكيك في قدرة أعضائه على القيام بمهمات عسكرية واسعة، على الرغم من تصريحات الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، التي قال فيها إنه يتوقع قديم التزامات واضحة من الدول الأعضاء لزيادة الإنفاق الدفاعي في 2023 كما أن قوات الناتو زادت عناصرها، في شرقي أوروبا، إلى أكثر من 40 ألف عسكري.
والمراد قوله إنه لا توجد أية مشكلات في القدرات العسكرية للحلف إذا تبني مقاربات سياسية أو إستراتيجية في هذا الإطار برغم كل ما يتردد من إمكانيات متعلقة بمسارات الأزمة الراهنة واحتمالات تحولاتها وتأثيراتها على الأمن الأوروبي بأكمله، وبرغم استمرار الدعوة للتهدئة، وعدم التصعيد وهو ما تتبناه فرنسا داخل حلف الناتو تخوفا من مما هو قادم ودعا الرئيس الفرنسي ماكرون لاستمرار الحوار مع روسيا، وعدم التصعيد في إشارة إلى دول الحلف ليست كلها في موقف واحد ، وأن هناك تحفظات على ما يجري ويرتبط بآليات التعامل مع المشهد واحتمالات تطوره حيث لا يوجد ما يدعو للتصعيد في إطار إستراتيجية جماعية لدول الحلف أو التعامل مع روسيا .
وفي المجمل فإن أية تدابير اتخذها الحلف لردع روسيا عن أي هجوم على دولة من الأعضاء، خصوصاً بولندا ودول البلطيق الثلاث إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، لا يضمن بالضرورة أي التزام قانوني بموجب معاهدة الحلف تجاه أوكرانيا الدولة غير العضو به، كما أن الناتو سيتمركز بقواته في الجزء الشرقي للحلف؛ أي في دول الجوار الجغرافي لكل من روسيا وأوكرانيا، وتحديداً في إستونيا ولاتفيا وبولندا وليتوانيا، من منطلق الدفاع والردع في حال امتداد الغزو الروسي لأوكرانيا لإحدى هذه الدول. لأنه في هذه الحالة، قد يلجأ ناتو لتفعيل المادة 5 من معاهدة واشنطن، المؤسسة لحلف ناتو، وتقضي بأن أي هجوم على دولة عضو في الحلف يمثل هجوماً على الحلفاء جميعهم كما يجب الإشارة، ووفقا للواقع الراهن فإن الولايات المتحدة لم تعد تهتم بتقوية حلف شمال الأطلسي، وأن استجابته المحدودة للغزو الروسي لأوكرانيا غير العضو بالحلف أو حتى استجابته المحتملة للهجوم على أي من الدول الأعضاء الثلاثين، حال حدوثها، وراءها أسباب هيكلية تتعلق ببنية الحلف، وأخرى مرتبطة بسياسة موسكو لإضعافه خلال السنوات الماضية كما لم يفعل الرئيس بايدن شيئاً لتقوية الناتو، كما تراجع عن التزامات الدفاع الأمريكية تجاه أوكرانيا والمؤكد أن تعليقات حلف الناتو بأنه سيدافع عن أراضيه بأكملها لا تزال بلا معنى إلى حد كبير حتى ولو خرج الوضع عن السيطرة لدرجة غزو روسيا أحد أعضاء الناتو وهو أمر مستبعد ولن يحدث باعتباره من الخطوط الحمراء التي يلتزم به الجانب الروسي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة