في قلب المشهد السوري المتشابك، تتوالى الأحداث بوتيرة لا تهدأ، وتتشكل التحالفات وتتبدد، ثم تعود لتتجدد من رحم الضرورة.
ومن بين أبرز هذه التحولات، جاء الاتفاق الأخير بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ليطرح أسئلة عميقة تتجاوز حدود السياسة إلى جوهر الصراع السوري نفسه: هل نحن أمام بداية صفحة جديدة من التفاهم الوطني؟ أم أن الاتفاق مجرد محطة اضطرارية فرضتها حسابات اللحظة؟.
لم يكن أحد يتوقع أن يلتقي الطرفان عند منتصف الطريق بهذه السرعة، لا سيما أن المؤشرات خلال الفترة الماضية كانت تنذر بتصعيد متزايد، بل وربما قطيعة نهائية. فجذور الخلاف عميقة، والتباعد السياسي والعسكري ظل لسنوات يحكم العلاقة بين الدولة المركزية في دمشق، والإدارة الذاتية التي سعت إلى فرض واقع سياسي خاص في الشمال الشرقي.
لكن الرياح الإقليمية والدولية لم تَجرِ كما تشتهي سفن قسد، ولا كما ترغب دمشق. فقد وجدت قوات سوريا الديمقراطية نفسها أمام مشهد دولي متغير، بدأ فيه الدعم الأمريكي يتراجع تدريجيًا، والغطاء الدولي يفقد صلابته، بينما تتصاعد التهديدات التركية باجتياح جديد يهدد مناطق سيطرتها.
ولم تكن الاحتجاجات الداخلية في مناطق الإدارة الذاتية بأقل خطورة، حيث بدأت الأصوات العربية تعلو مطالبة بإعادة التوازن وإصلاح السياسات الأمنية والإدارية.
في المقابل، كانت دمشق تدرك أن إعادة السيطرة على تلك المناطق الشاسعة والغنية بالنفط عبر الحل العسكري ستكون مغامرة محفوفة بالتكلفة والخسائر.
ومن هنا، بدا خيار التفاهم السياسي أقل تكلفة وأكثر جدوى. فالاتفاق مع قسد يتيح لها استعادة موطئ قدم شرقي الفرات، دون إطلاق رصاصة واحدة، ويمنحها ورقة سياسية قوية في وجه التدخلات الخارجية، كما يعيد ترتيب مشهد السيادة في مواجهة الأطماع التركية والضغوط الغربية.
ومع أن هذا التفاهم قد يبدو للوهلة الأولى وكأنه تقارب استراتيجي، فإن حقيقة الأمر تشير إلى أنه أقرب إلى "اتفاق الضرورة" أكثر منه تحالفًا طويل الأمد.
فكل طرف جاء إليه من موقع الضغط، لا من موقع الارتياح. قسد تسعى لتأمين مناطقها أمام الخطر التركي، ودمشق تسعى لتوسيع سيطرتها وتحجيم الدور الأميركي دون فتح جبهات إضافية.
ورغم ذلك، لا يمكن تجاهل ما يحمله هذا الاتفاق من دلالات عميقة؛ فهو اعتراف ضمني من قسد بشرعية الدولة السورية، وتراجع عن فكرة الانفصال أو الحكم الذاتي الكامل.
كما أنه، في المقابل، يضع دمشق أمام تحدٍّ كبير: كيف ستتعامل مع هذه القوات؟ وهل ستكون قادرة على دمجها في الجيش الوطني دون خلق توترات داخلية؟
وهل ستمنح الأكراد وشركاءهم من مكونات الشمال الشرقي دورًا سياسيًا فاعلًا يضمن لهم حقوقهم ضمن إطار الدولة الواحدة؟.
القراءة الأوسع: نحو مشهد سوري جديد؟
إن اتفاق دمشق – قسد ليس حدثًا منفصلًا، بل هو مرآة تعكس المشهد السوري بأكمله. فهذه الخطوة، بكل ما تحمله من دلالات، تشير إلى أن البلاد تقف اليوم
على أعتاب مرحلة إعادة تشكل داخلية قد تؤسس لتوازنات سياسية واجتماعية جديدة. من هنا، فإن السؤال الأكبر الذي يفرض نفسه:
هل يكون هذا الاتفاق مقدمة لحوار وطني شامل يُعيد جمع مكونات البلاد المختلفة تحت مظلة مشروع وطني جامع؟
هناك مؤشرات كثيرة تدفع بهذا الاتجاه:
- حالة الإنهاك التي تعيشها جميع القوى، بما فيها الدولة، تجعل من الحلول السياسية أكثر واقعية من استمرار النزاع.
- التحولات الإقليمية والتقارب العربي مع دمشق قد يخلقان بيئة داعمة لتسويات داخلية أكثر مرونة.
- التراجع التدريجي للنفوذ الأميركي والغربي يترك فراغًا لا يمكن ملؤه إلا بمشروع وطني حقيقي.
وفي المقابل، هناك تحديات لا يمكن تجاهلها:
- هشاشة الثقة بين المكونات المختلفة.
- تضارب المصالح الإقليمية، الذي لا يزال يلقي بثقله على الداخل السوري.
- غياب خارطة طريق واضحة للحل السياسي الشامل.
مستقبل سوريا بين الممكن والواجب
ما يحدث في سوريا اليوم هو أكثر من مجرد تفاهمات سياسية مؤقتة. إنه تحول في قواعد اللعبة ذاتها. ويبدو أن جميع الأطراف بدأت تدرك أنه لا حل مستدام إلا من خلال التفاهم الداخلي والاعتراف بالواقع السوري كما هو، لا كما كان.
لقد أنهكت الحرب الجميع، وآن الأوان لسوريا أن تدخل مرحلة الترميم الوطني، لا فقط بإعادة الإعمار العمراني، بل بإعادة بناء الوعي الوطني، واستعادة الثقة بين الدولة ومواطنيها، وبين المكونات التي أنهكها الصراع والانقسام.
ويبقى التحدي الأهم: هل يتحول هذا الاتفاق إلى بداية مشروع جامع يعيد لسوريا سيادتها ووحدتها؟ أم أنه سيتوقف عند حدود الضرورة ثم يتبخر مع أول هزة سياسية جديدة؟
الجواب، كما دائمًا، مرهون بإرادة السوريين أنفسهم، وقدرتهم على تجاوز الماضي، وصناعة مستقبل لا يُرسم من الخارج، بل يُبنى بإرادة الداخل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة