يسطر الواقع قصة كفاح الإنسان التي يعيدها عبر الأزمان، بسعيه لتطويع الإمكانات المتاحة، نيلاً لمكاسبه، وتجاوزاً للتحديات، والانتقال للجزء الذي يلي "عقدة الحكاية"، لضمها أخيراً لسلسلة النضال الإنساني عبر التاريخ المتعاقب.
إذ يعيش العالم في حقبة استباقية لـ"ما بعد الجائحة"، بحالة أشبه بالعوم في فقاعة هلامية يصعب معها تحديد الاتجاه، وتوجيه المسار، سيما في ظل هرولة الاحتياجات من صغيرها لكبيرها منتقلةً من مسارها الذي كان طبيعياً فيما سبق إلى مسار الضرورة القصوى، والحاجة الملحة.
والداعي لوجود مثل هذه الحالة هو ما اكتشفه الإنسان من عوز وقصور في كثير من المجالات من جهة، وتدهور الأوضاع، التي كانت تعتمد فيما قبل على أبسط الإمكانيات سعياً للاستمرار، ولم يعد بمقدورها ذلك بعد الأزمة العالمية، من جهة أخرى.
ومن الحري بالاهتمام تشابه الخيوط، التي تنسجها المجتمعات، خروجاً بقطعة متناسقة الألوان يرتديها العالم القادم بصورته الناضجة، من خلال تقديم الأولويات القصوى، والتركيز عليها، والتي تتلخص فيما يقارب 21 محطة ينتقل منها العالم لمعالجة أبرز القضايا الشائكة، بحسب تقرير القمة العالمية للحكومات لعام 2021.
وفي حين تغطي تلك الأولويات الحادية والعشرين الاحتياجات العالمية كافةً، فإنها تطلق أغصانها من خلال خمسة جذوع أساسية، يتمثل أولها في التركيز على استدراك التداعيات والندوب البارزة الباقية خلف الجائحة، وذلك من خلال تعزيز التكامل المجتمعي، سيما أن بناء الإنسان هو أساس نجاح البنيان، والاستثمار الناجح، وإحداث التغيير والتطور النوعي في أي مجال، مهما بلغت صعوبته ومستلزماته، سيما أن التفكير بالنهوض بالإنسان هو من قبيل السعي لتحقيق نهضة متكاملة بجهود إنسانية من الدرجة الأولى، إذ "يصبح الإنسان عظيماً تماماً بالقدر الذي يعمل فيه من أجل رعاية أخيه الإنسان"، كما يقول المهاتما غاندي.
المخاطر، التي صاحبت ظهور كورونا، لم تلغِ وجود غيرها من الأمراض والفيروسات، وفي السياق ذاته، وانطلاقاً من نية العمل لا التنظير، فلا بد من إعادة تفعيل عجلة المبادرات العالمية لمواجهة التحديات الصحية، وبخاصة في ظل الانقطاع الحاد لرعاية الأمراض المتفشية والتركيز فقط على مكافحة كوفيد-19، على الرغم من تفشي بعض الأمراض المعوزة لاستمرار محاربتها وإيصال العقاقير لمناطق انتشارها، من مثل: "السل، والملاريا، والإيدز"، وغيرها.
وبخاصة، بعد تذبذب حركة الطيران لفترات حالت دون ذلك، ما يضع فرصة ذهبية لفيروس نقص المناعة المكتسب -مثلاً- لتطوير نفسه بحيث يقاوم العقاقير التي أخذت أعواماً من الجهود البشرية لتصنيعها.
ففي العام الماضي، تصاعدت أعداد الإصابة بـ"حمى الضنك" في إندونيسيا، والملاريا في أنحاء أمريكا الجنوبية كافة، وأفريقيا، وعاد كابوس شلل الأطفال في اليمن، في أواخر مراحل القضاء عليه، كما يتوقع ارتفاع نسبة الوفيات بمرض الإيدز بنسبة تقارب 10%، وارتفاع وفيات مرض السل بنسبة 20%، والأمراض الأخرى المرتبطة بالملاريا بنسبة 35%، بناء على دراسة هذا العام للقمة العالمية للحكومات.
"فجوة العناية"، التي يضطر العالم إلى أن يجابهها اليوم، وبالرغم من خشونة تضاريسها في مختلف القطاعات، فإنها ستكون اللبنة الأولى في تشييده البناء القادم المُعين له بالاستمرارية، والركيزة الثابتة لأبناء المجتمعات البشرية لإعداد خطط استباقية تحول دون وقوعه بفخ الأزمات، والتي إن وقعت، يستطيع تخطيها برصيده من الخبرات المبني على تراكمات ثقافية وإجرائية، وامتلاكه أدوات ووسائل تتماشى وحجم تحدياته.
نقلا عن الاتحاد الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة