لو كان ناحوم سوكولوف حيًّا، لرأيته بين المتظاهرين الإسرائيليين يهتف ضد بنيامين نتنياهو، وهو يلوّح باكيًا بإحدى عينيه بصور "المختطفين الإسرائيليين".
فيما يوجّه عينه الأخرى صوب مساعديه، حيث يتابع تنفيذ تعليماته لهم بإبراز صور الحزن والأسى لأسر المختطفين لتتصدر "الترند" على مواقع التواصل الاجتماعي.
وناحوم سوكولوف هو أحد زعماء الحركة الصهيونية، ويعدّه كثيرون المؤرخ الرسمي للحركة. وهو صحفي وكاتب يهودي وُلد في بولندا سنة 1859. كان في شبابه من بين اليهود الرافضين للفكرة الصهيونية، لكنه غيَّر موقفه بعد حضوره المؤتمر الصهيوني الأول، الذي عقده تيودور هرتزل في مدينة بازل بسويسرا سنة 1897، وصار واحدًا من أشد المؤيدين للفكرة والمدافعين عنها.
قدّم ناحوم سوكولوف الكثير للحركة الصهيونية قبل إعلان قيام إسرائيل على المستوى السياسي والتنظيمي، لكنه قدّم ما هو أهم على مستوى الدعاية وصناعة الصورة الذهنية، سواء عبر كتابه الأشهر تاريخ الصهيونية، الذي أصدره عام 1917، أو عبر كتاباته باللغة العبرية، التي ساهمت في تطويرها ومنحها صبغة عصرية.
مولد هاسبارا
وناحوم سوكولوف هو أوّل من أدخل مصطلح "هاسبارا" على المفردات الإسرائيلية في مطلع القرن العشرين. وتعني "هاسبارا" في اللغة العبرية "الشرح" أو "التوضيح"، وعلى يديه صارت استراتيجية إعلامية اعتمدت عليها الحركة الصهيونية من أجل بناء صورة ذهنية إيجابية لها خارج الأوساط اليهودية.
"هاسبارا" هي المرادف العبري للمصطلح اللاتيني "بروباغندا"، لكن سوكولوف أراد أن يمنحها توصيفًا إيجابيًّا لتجنّب الانطباع السلبي الذي يخلقه مفهوم الدعاية الفجّة، حتى باتت استراتيجية متكاملة تستخدم وسائل الإعلام بمختلف صورها لتبييض صورة إسرائيل قبل وبعد إعلان تأسيسها.
وتقوم استراتيجية "هاسبارا" على عدّة عناصر، أهمها:
- الترويج لفكرة أن إسرائيل ضحية بريئة تعيش في وسط مليء بالكراهية.
- الترويج لفكرة أن معارضة إسرائيل تنبع من معاداة اليهود كديانة، مع تعظيم الاستفادة من "الاضطهاد الذي عاشه اليهود في أوروبا" وتصديره على الدوام لخدمة هذا التوجه.
- الترويج لفكرة أن أي نشاط معارض لإسرائيل هو نشاط معادٍ للسامية.
- الترويج لفكرة "اليهودي الكاره لنفسه" ضد اليهود المعارضين لإسرائيل وأفعالها.
ومن هذه المنطلقات، تحوّلت الفكرة إلى استراتيجية متكاملة وخطط عمل تضعها الدولة وأجهزتها الأمنية والمخابراتية، وتنفذها مؤسسات صحفية وإعلامية ومراكز بحثية داخل إسرائيل وخارجها.
وعلى هذا النحو، تفاعلت استراتيجية "هاسبارا" وشكّلت الذراع الإعلامية التي مكّنت إسرائيل من كسب مساحات تأييد واسعة، وبخاصة في المجتمعات الغربية، ولم تتعرض لهزائم حقيقية إلا في مرات معدودة، كان أبرزها الهجوم الإسرائيلي على مدرسة بحر البقر في محافظة الشرقية بمصر في 8 أبريل عام 1970، حين قتلت الغارات الإسرائيلية ثلاثين طفلًا وأصابت نحو خمسين آخرين.
ورغم ضعف إمكانيات مصر الإعلامية آنذاك مقارنة بالإمكانات الإسرائيلية، فإنها ربحت المعركة الإعلامية، وكانت الغارة الإسرائيلية على مدرسة بحر البقر محل إدانة واسعة في شتى أنحاء العالم على المستويين الرسمي والشعبي.
وفي عام 1982، حين أقدمت إسرائيل على اجتياح لبنان ونفذت مذبحة ضد اللاجئين الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا، قُتل فيها نحو 1300 شخص، تعرضت صورة إسرائيل لهزة عنيفة في الأوساط الغربية، وهو ما دفع قادة إسرائيل إلى تفعيل استراتيجية "هاسبارا" في محاولة لتبرير المجزرة وتبييض وجه إسرائيل لتبدو وكأنها في حالة دفاع شرعي عن النفس.
ومع الثورة الرقمية، اتسع نشاط استراتيجية الدعاية الإسرائيلية وتمكّنت من احتلال مساحات واسعة في العقل الجمعي عبر أساليب التأثير المتنوعة باستخدام تقنيات الإعلام الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي، لكن تغييرًا كبيرًا قد طرأ على هذا النجاح الذي راكمته استراتيجية "هاسبارا" في حرب غزة بعد السابع من أكتوبر 2023.
فبعد هذا التاريخ، استنفرت إسرائيل كامل قواها الدعائية وتمكّنت بالفعل من كسب معركة الصورة في الأيام التي أعقبت هجوم السابع من أكتوبر، غير أن الأمر اختلف بعد استهداف المستشفى المعمداني، وما تلاه من تدمير شبه كامل لقطاع غزة. وعلى خلفية العمليات الإسرائيلية في قطاع غزة، بدأت السردية الإسرائيلية في التراجع، ثم الانكسار والهزيمة مع اتساع دوائر المعارضة والرفض لما ترتكبه إسرائيل في غزة، حتى وصلت إلى الداخل الأوروبي والمجتمع الأمريكي.
هزيمة السردية الإسرائيلية
وزاد من هزيمة السردية الإسرائيلية، سياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحلفائه من اليمين المتطرف، وبخاصة بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير.
وأمام صور القتلى من المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، انهارت استراتيجية "هاسبارا"، ولم تعد إسرائيل هي الضحية، كما كانت آلة الدعاية الإسرائيلية المدعومة أمريكيًّا تصوّرها.
رحل ناحوم سوكولوف عام 1936 في لندن، ونُقلت رفاته للدفن في جبل هرتزل، الواقع في غرب مدينة القدس، حيث مقابر قادة الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل.
وبعد رحيل سوكولوف بنحو 13 عامًا، وُلد بنيامين نتنياهو في تل أبيب، ليصبح وهو في سن السابعة والأربعين أول رئيس وزراء يولد في إسرائيل.
يعرف نتنياهو استراتيجية "هاسبارا" ويحفظ جيدًا تاريخ إسرائيل والحركة الصهيونية، ويدرك أهمية الدور الذي لعبه ناحوم سوكولوف، لكنه تسبب في هزيمة ما ابتكره من أساليب، ووضعه من خطط للدعاية الإسرائيلية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة