في كل مرة أفتح فيها أحد مواقع التواصل الاجتماعي، أجد أمامي مشهداً متكرراً.. أشخاصٌ نصبوا أنفسهم حراساً للمجتمع، يراقبون المحتوى، ويحاسبون المؤثرين، ويصدرون أحكاماً أخلاقية على كل ما يُنشر.
حتى انتشرت هذه الظاهرة بشكل غير مسبوق، وأصبح من المعتاد رؤية حملات جماعية تطالب بإلغاء شخص معين بسبب رأي أدلى به، أو مقطع فيديو نشره، أو حتى صورة لم تعجب البعض.
كما لم يعد الأمر مقتصراً على الانتقاد العفوي أو التعبير عن الرأي، بل تحول إلى رقابة جماعية تُمارَس أحياناً بعشوائية، مما يجعل الفضاء الرقمي أشبه بساحة «محاكمات مستمرة»، حيث الجميع تحت المجهر، والجميع معرض للمحاسبة الفورية، دون ضمانات أو إجراءات عادلة.
«حراس المجتمع» الذين أتحدث عنهم ليسوا جهات رسمية أو مختصة، بل هم أفراد أو مجموعات عادية تأخذ على عاتقها مسؤولية ضبط السلوك العام على المنصات الرقمية، وبالتالي يتصرفون كأنهم سلطة أخلاقية رقمية، يقيّمون المحتوى، ويحددون ما هو مقبول وما هو غير مقبول.
وأحياناً يشنّون حملات لمقاطعة أو إلغاء (Cancel Culture) شخصيات يرون أنها تجاوزت «الحدود» وفق معاييرهم الخاصة، فيما تبدأ المشكلة عندما تتحول هذه الرقابة إلى وصاية قسرية تُفرض على الجميع، وتتحكم في طبيعة النقاش العام.
وبالطبع، يرى البعض أن هذه الظاهرة تعكس وعياً مجتمعياً متزايداً، حيث أصبح الجمهور أكثر قدرة على محاسبة الشخصيات العامة والمؤثرين الذين يتجاوزون الحدود الأخلاقية أو الاجتماعية، لكن في المقابل، قد تتجاوز هذه الرقابة الحد المقبول، لتصبح أداة للوصاية والتضييق على الحريات.
والمشكلة الأكبر أن هذه «المحاسبة» تتم خارج أي إطار قانوني أو أخلاقي واضح، مما يجعلها عرضة للتعصب والمزاجية، حيث يتم استهداف أفراد معينين بينما يتم التغاضي عن آخرين في مواقف مشابهة.
وفي بعض الحالات، تتحول هذه المحاكمات الرقمية إلى أدوات لتصفية الحسابات الشخصية أو استهداف أشخاص بسبب آرائهم، وليس بسبب تجاوزات حقيقية.
والأسوأ من ذلك، أن الضغوط الجماهيرية قد تدفع الشركات والمنصات الرقمية إلى اتخاذ قرارات متسرعة بحظر الحسابات أو إلغاء العقود، تخوفاً من رد الفعل الجماهيري، دون التحقق من صحة الادعاءات أو منح الأفراد فرصة للدفاع عن أنفسهم.
حرية التعبير في الفضاء الرقمي حق أساسي، لكنه أيضاً محكوم بحدود قانونية وأخلاقية، ومع ذلك، فإن نقل مسؤولية تقييم المحتوى من المؤسسات الرسمية والقانونية إلى الجماهير قد يؤدي إلى نتائج عكسية، حيث تصبح مواقع التواصل الاجتماعي ساحة للصراعات الإيديولوجية بدلاً من أن تكون منصة للحوار المفتوح.
لذا، هناك خيط رفيع بين المطالبة بالمساءلة وبين التحول إلى ما يشبه شرطة أخلاقية رقمية؛ فبينما من المهم أن يكون للمجتمع دور في تقييم المحتوى ومساءلة المؤثرين، يجب أن يتم ذلك في إطار منظم، يحترم الحقوق، ويضمن عدم تحول النقد إلى تحريض أو تنمر رقمي.
ولضمان بيئة رقمية صحية، هناك حاجة إلى آليات توازن بين حماية القيم المجتمعية وضمان حرية التعبير، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال تعزيز الوعي القانوني.
إذ يجب أن يدرك المستخدمون أن هناك فرقاً بين النقد المشروع والتشهير أو التنمر الرقمي، وأن هناك قوانين تنظم المحتوى الرقمي دون الحاجة إلى تدخلات فردية غير منظمة.
فضلاً عن أن يكون للمجتمع دور إيجابي عبر التبليغ عن المحتوى غير القانوني وفق سياسات المنصات، دون أن يتحول الأمر إلى حملات استهداف شخصية، مع التوعية بمخاطر المحاكمات الرقمية وتعزيز التفكير النقدي وعدم الانجرار وراء حملات المحاكمة الجماعية دون التحقق من الحقائق، وأخذ الوقت الكافي لفهم السياق قبل اتخاذ موقف.
«حراس المجتمع» ظاهرة تعكس تغيراً جوهرياً في ديناميكيات الرقابة والحرية في العصر الرقمي، لكنها قد تصبح سلاحاً ذا حدين إذا لم يتم تنظيمها أو ضبطها بحدود واضحة.
وبينما من المهم أن تكون هناك مساءلة مجتمعية، فإن الأهم هو ضمان عدم انحرافها نحو وصاية غير رسمية تُلغي التنوع. فالفضاء الرقمي مساحة للنقاش المفتوح والتعددية، لا ساحة للمحاكمات الجماهيرية والرقابة العشوائية.. والقانون هو الضابط دوماً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة