باماكو المالية.. مدينة العائلات الثلاث ولعبة السلطة

في باماكو، عاصمة مالي، لا تزال حكايات الماضي والإرث الضارب في عمق التاريخ، ينبضان بالحياة في الذاكرة الجماعية لسكانها.
فهذه المدينة، التي أصبحت اليوم مركزًا حضريًا متسارع الخطى، تحمل بين أحيائها وطرقها المعقّدة إرثًا ضاربًا في القدم؛ إرث تشكل على أيدي ثلاث عائلات كبرى، لعبت أدوارًا محورية في تأسيس المدينة، وتشكيل نسيجها الاجتماعي والسياسي.
ونشأت باماكو في القرن السابع عشر من اندماج 4 قرى متجاورة، وتعود أولى الكتابات عن باماكو إلى الحقبة الواقعة بين عامي 1795 و1805.
نشأت المدينة في الأساس على الضفة الشمالية لنهر النيجر ولكن مع التوسع والنمو العمراني أنشئت الجسور إلى الضفة الأخرى لتصل شمال النهر بجنوبه.
فمن هم هؤلاء "الآباء المؤسسون" لباماكو؟ ومن أين أتوا؟ وكيف تعاملوا مع القوى الاستعمارية ومع الدولة المالية بعد الاستقلال؟
بين الاستعمار والاستقلال
في هذا السياق، نقلت إذاعة "إر.إف إي" الفرنسية، عن الباحث بوكار سنغاري أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الحرة ببروكسل، الذي نشر كتاب: "العائلات المؤسسة لباماكو: تاريخ الدولة في مالي"، قوله إن ذاكرة القارة الأفريقية تأخذنا هذه المرة إلى باماكو، عاصمة مالي، حيث تختلط الأسطورة بالتاريخ، والموروث الشفهي بالوثائق القديمة.
وبحسب التقاليد الشفوية وعدد من المخطوطات التاريخية، فإن تأسيس هذه المدينة التي لطالما كانت مفترق طرق ثقافي واقتصادي، يُنسب إلى ثلاث عائلات رئيسية: عائلة نيارِه، وعائلة توريه، وعائلة درافِه.
لكن دور هذه العائلات لم يقتصر على مجرد التأسيس العمراني، بل كان تأسيسًا اجتماعيًا وسياسيًا وروحيًا. فقد ارتكز بناء المدينة على تحالفات زواجية، وتكاملٍ بين زعامات محلية، وانسجام بين القيم الدينية والمعارف التقليدية.
من أين جاءت هذه العائلات؟
يرى كثير من الباحثين أن هذه العائلات الثلاث لم تأتِ إلى باماكو دفعة واحدة، بل عبر مراحل تاريخية متفرقة، تداخلت فيها الهجرات الداخلية مع الديناميكيات السياسية للإمبراطوريات الأفريقية القديمة، لا سيما إمبراطورية مالي وإمبراطورية السنغاي.
وتمركزت كل عائلة في أحياء محددة، ولعبت دورًا محوريًا في تنظيم الحياة العامة، سواء في إدارة الأراضي، أو في فض النزاعات، أو حتى في الوساطة بين الجماعات الإثنية المختلفة.
وأوضح سنغاري أن هذه العائلات كانت في البداية منخرطة في هيكل السلطة التقليدي المحلي، لكنها سرعان ما وجدت نفسها مجبرة على التفاعل مع السلطات الاستعمارية الفرنسية، مشيراً إلى أن بعض رموزها تعاونوا مع الإدارة الاستعمارية لضمان استقرار مجتمعاتهم، فيما فضّل آخرون مسار المعارضة أو الحذر.
وتابع: "بعد الاستقلال، لم تخرج هذه العائلات من المشهد، بل أعادت التموقع ضمن مؤسسات الدولة الحديثة. بعض أفرادها أصبحوا نوابًا، وزراء، أو قادة محليين".
وبحسب سنغاري، فإن هذه العائلات استطاعت استثمار إرثها الرمزي والاجتماعي لتأمين مكانة مؤثرة في الدولة المركزية، مما يطرح تساؤلات حول العلاقة بين الموروث التقليدي وبنية الدولة الحديثة في أفريقيا.
لا تزال أسماء نيارِه، وتوريه، ودرافِه تتردد في أزقة باماكو، لا سيما في المناسبات الكبرى والاحتفالات التقليدية. فوجودهم يتجاوز حدود التاريخ ليصبح جزءًا من هوية المدينة نفسها.
ومع ذلك، يحذر سنغاري من الرومانسية المفرطة في تناول هذه الرمزية، ويشدد على أهمية تفكيك العلاقة بين الإرث التقليدي والسلطة السياسية، خاصة في ظل التحولات العميقة التي تمر بها مالي، سواء على صعيد الأمن أو الحكم أو الهوية الوطنية.