التباين بين مواقف المرشحين لمناصب رئيسية في إدارة ترامب شق طريقه عبر روسيا وسورية بالذات في رفض وزير الخارجية المفترض ريكس تيليرسون تحميل روسيا تهمة ارتكاب جرائم حرب في سورية
التباين بين مواقف المرشحين لمناصب رئيسية في إدارة ترامب شق طريقه عبر روسيا وسورية بالذات في رفض وزير الخارجية المفترض ريكس تيليرسون تحميل روسيا تهمة ارتكاب جرائم حرب في سورية، وفي تأكيد المرشحة لمنصب سفيرة لدى الأمم المتحدة بمنصب وزيرة، نيكي هايلي، أن «أفعال روسيا في سورية، مثل قصف المستشفيات، هي جرائم حرب، ولا يمكن الولايات المتحدة أن تثق بروسيا». كلاهما رأى أن تخفيف العقوبات على موسكو يرتبط بإثباتها الإيجابية في سياساتها الثنائية والدولية. روسيا إذاً، ليست في إبحار بلا أمواج ورياح إلى قلب الإدارة الجديدة، بل إن عواصف تترقب اندفاعها للزعم أنها باتت الشريك المفضل لدى الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب. محطة ارتباكها الأولى تبدو آتية في آستانة التي نقلت إليها تفاهماتها الميدانية مع تركيا لتصبح بوتقة الحلول السياسية البديلة عن تلك التي وضعتها الأمم المتحدة في بيان جنيف وقراراتها اللاحقة ركيزتها الأساسية، وهي عملية سياسية انتقالية في سورية تبقي مسألة مصير الرئيس بشار الأسد على جدول المفاوضات. موضع قوة موسكو قد يكون موضع ضعفها تماماً، كما أن قوة تركيا المستجدة مرشحة لتكون خاصرتها الركيكة. الأضعف في المعادلة اليوم هو أوروبا والخليج، لأن كليهما فوّض للثنائي «الضامن» مهمة النجاح أو الفشل في آستانة. إيران أيضاً ليست في مرتبة الارتياح الذي اعتادته في عهد باراك أوباما، وليست في وفاقٍ استراتيجي كامل مع روسيا بسبب اختلاف أولوياتهما السورية، فطهران بدأت التململ نتيجة بروز عناصر في إدارة ترامب تنوي وضعها تحت المجهر نووياً وإقليمياً، وهي واعية إلى اعتزام أوروبا، وبريطانيا بالذات، بدء توسيع بيكار محاسبتها على تجاوزاتها في سورية واليمن وتحدي صناعتها الميليشيات وإنشاء القوات غير النظامية الموازية للجيوش التقليدية في الدول العربية، على نسق «الحرس الثوري» في إيران. كل هذا يضع العصا في العجلة الروسية– الإيرانية– التركية، أقله في هذه المرحلة.
بعد ثلاثة أيام على تولي دونالد ترامب الرئاسة الأميركية وقبل موافقة الكونغرس على تعييناته الوزارية، قررت موسكو عقد اجتماع حول سورية في آستانة، عاصمة كازاخستان، سوية مع تركيا، في خطوة هدفها إخراج الملف السوري من مجلس الأمن والأمم المتحدة. الديبلوماسية الأوروبية قررت أن تعطي موسكو فرصة النجاح أو الفشل، وحددت النجاح بأن تكون آستانة خطوة نحو إحياء المفاوضات على أساس بيان جنيف وعودةً إلى الأمم المتحدة، وليس العكس. اعتبرت أن أي شيء يصدر عن آستانة لجهة إخراج الملف السوري من الأمم المتحدة فشل، لكنها لم تتبنَّ استراتيجية إفشال المسعى الروسي– التركي ولم تضع استراتيجية بديلة، فقررت -شأنَ الدول الخليجية- المراقبة والانتظار.
اللافت في المواقف الأوروبية هو استعدادها لأن يكون لها حضور ودور في آستانة عبر تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو). ووفق ديبلوماسي غربي: «إننا منخرطون جداً عبر تركيا في آستانة لجهة تعريف ما الذي يجب أن يصدر عنها وما لا يجب أن يصدر عنها، وكذلك لجهة الخطوط الحمر، فنحن حلفاء جداً جداً مع تركيا».
وفي رأي هذا الديبلوماسي، فإن القيادة في آستانة «حق استحقته روسيا وتركيا» نتيجة استثماراتهما الميدانية في سورية، ولهما الحق في «صوغ شكل» المستقبل في سورية، «لأنهما استثمرتا أكثر مما استثمرنا في سورية».
هذا الضعف البنيوي في المواقف الأوروبية نحو سورية، أدى أيضاً إلى التراجع في مسيرة المحاسبة التي قادتها بريطانيا وفرنسا في مجلس الأمن عبر مشروع قرار في شأن استخدام الأسلحة الكيماوية من جانب النظام في سورية، فقد عملت الدولتان نحو استصدار قرار أواخر السنة الماضية ثم قررتا الانتظار بتبريرات مختلفة، منها: العضوية الجديدة لهذا العام في مجلس الأمن، والإدارة الجديدة في واشنطن، والخوف من فيتو روسي «لا فائدة من استدراجه». إنما، وفق مزاعم الديبلوماسية الأوروبية «هذه مسألة حيوية لنا، ولن نتخلى عنها، لأنها معنية بموضوع استخدام الأسلحة المحظورة». واقع الأمر، أن هذا السلاح هو أداة من أدوات التأثير أو المواجهة مع روسيا وهي تختطف الملف السوري من مجلس الأمن لتنفيذ غاياتها.
الدول الأوروبية في مجلس الأمن استيقظت الآن إلى أدوار إيرانية في سورية وطموحاتها الإقليمية بعدما كانت «تناست» عمداً، شأنها شأن واشنطن، إفرازات اتفاقها النووي مع إيران على الصعيد الإقليمي، فلقد كانت الدول الغربية على علم تام بما يعنيه ليس فقط فك الربط بين مشاريع إيران الإقليمية وطموحاتها النووية، وإنما أيضاً ما وافقت عليه من إبطال لقرارات مجلس الأمن التي حظرت على طهران تصدير السلاح وصنع الميليشيات والتدخل المباشر عسكرياً خارج حدودها، وذلك بموجب الاتفاق النووي. بذلك، سمحت الدول الغربية لإيران بالتوغل عسكرياً في سورية قبل الاتفاق النووي خوفاً عليه وبعد الاتفاق النووي بموجبه.
اليوم، يتحدث الديبلوماسيون الغربيون بلغة الاحتجاج على الأفعال الإيرانية التي سبق وصمتوا عنها، بل شرّعوها في سورية، وفي اليمن والعراق ولبنان. بعضهم يقول إنه يفعل ما في وسعه إنما النفوذ الروسي مع إيران أقوى من النفوذ الأوروبي، وإن التباين في المواقف الروسية– الإيرانية في شأن سحب جميع المقاتلين الأجانب من سورية يضع روسيا في طليعة النفوذ الضروري كي تخضع إيران لمطالب سحب ميليشياتها من سورية.
السفير البريطاني لدى الأمم المتحدة ماثيو ريكروفت، قال في جلسة مجلس الأمن حول الانتهاكات الإيرانية لقراراته: «بعيداً من الملف النووي، تواصل إيران القيام بدور مزعزع للاستقرار في المنطقة، وهذا أوضح ما يكون في سورية». وتحدث الديبلوماسيون الأوروبيون عن انتهاكات إيرانية بمواصلتها مد «حزب الله» بأسلحة وبمحاولاتها إرسال أسلحة إلى اليمن.
ووفق ديبلوماسي أوروبي رفيع، فإن إدارة ترامب «ستكون مهتمة جداً بالتركيز على التمايزات بين كل من روسيا وإيران، خصوصاً في ما يتعلق بالأزمة السورية». وقال إن «الاتفاق النووي مع إيران يُلزم إيران، وإن بصيغة غير مكتوبة، بأن تتصرف كدولة إقليمية مسؤولة. وهذه المسؤولية يجب أن تنعكس في تصرفات إيران في العراق وسورية واليمن ولبنان، وهو ما لا نراه على الأرض». وأكد أن موقف بلاده «جدي جداً لجهة تنفيذ إيران التزاماتها الإقليمية... فعلى إيران أن تتصرف بمسؤولية وتلعب دوراً بنّاءً إقليمياً».
الدول الأوروبية تقع اليوم في ارتباك الضعف، فهي تستمد من الإدارة الأميركية الجديدة بعض الجرأة على الوقوف في وجه إيران بخجل، وهي توكل إلى تركيا الضعيفة في نهاية المطاف تمثيلها في آستانة مع روسيا. مواقفها تشابه مواقف الدول الخليجية لجهة غياب الاستراتيجية الاستباقية، ولها مع هذه الدول قواسم مشتركة لجهة الاتكال على تركيا، على رغم التحفظات على تقلباتها ومواقفها التفاوضية، كما لجهة انتظار الإدارة الأميركية المبعثرة بين مواقف الرئيس دونالد ترامب ومواقف وزرائه ومندوبته لدى الأمم المتحدة.
واشنطن الجديدة في عهد ترامب لغز يتأهب له العالم ومشروع وفاق واتفاق مع روسيا رهن الواقعية السياسية وتنافس المصالح الكبرى. هذا الأسبوع هو أسبوع الاحتفاءات والنقلة العملية من رئيس مُنتخب تمتع بالمكابرة والمزايدة والتحدي والتودد إلى رئيس فعلي في انتظار وزرائه وموافقة الكونغرس عليهم. لن تكون سورية في صدارة أولويات الرئيس الجديد سوى من البوابة الروسية. لن يكون الاتفاق النووي مع إيران في طليعة الإجراءات ضدها إنما ستكون إيران تحت المراقبة نووياً وإقليمياً. وهذا جديد يؤكده ما يقوله المسؤولون البريطانيون، وهم المقربون من واشنطن، إنما هذا الجديد ما زال قيد فرز العلاقة الأميركية– الروسية في ما يتعلق بمراقبة أدوار إيران الإقليمية. في الأمس ضحَّت واشنطن وحلفاؤها بالبعد الإقليمي في مشاريع طهران من أجل الاتفاق النووي، واليوم، يُراقَب التوغل الإيراني في الدول العربية، وهو قابل لأن يصبح موضع مواجهة سياسية لفظية وليس مشروع مواجهة عسكرية. فلا أحد يتكلم عن أدوات حادة ضد إيران لإلغاء مشروعها، وإنما ما يتكلمون عنه هو محاولة لجم إيران بلا خوف من انعكاسات ذلك على الاتفاق النووي. الجديد أن الرئيس باراك اوباما الذي يغادر البيت الأبيض حزم هوسه بالاتفاق النووي مع إيران وبالنقلة النوعية في العلاقات الأميركية– الإيرانية في حقائب الرحيل، فيما الرئيس الآتي إلى البيت الأبيض يفتح حقائب مختلفة وينفض عنها غبار الهوس.
الديبلوماسيون الأوروبيون عادوا إلى الحديث عن أمرٍ كان دونالد ترامب أوحى أنه لا يهمه، وهو «مصير الرئيس السوري بشار الأسد»، فالتمايز بين ما سبق واعتبره كثيرون مسألة بديهية لجهة العلاقة بين ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والمؤشرات إلى مواقف أميركية أقل تهادنية وإرضاء لإيران بالذات في سورية، فتحت الحديث مجدداً عن مصير الأسد ليحل مكان الاستنتاج التلقائي عند البعض أن الأسد باقٍ بقرار دولي إلى ما لا نهاية. أحد هؤلاء الديبلوماسيين تحدث بلغة أن «الحرب لم تنته بعد»، وأن الأسد «لا يمكن أن يكون جزءاً من مستقبل سورية»، وقال إن الكلام يدور حالياً حول «كيف ومتى على الأسد أن يرحل، إنْ بصيغة تحوله رئيساً فخرياً أو من طريق الانتخابات». وأوضح الديبلوماسي الغربي أن «الأسد هو جزء من الحديث حول مصيره لكنه ليس جزءاً من المفاوضات بعد».
قد يكون هذا الكلام أوروبي اللغة وقد يكون مجرد تمنيات أو تطويقاً لصفقة بين ترامب وبوتين تطيح مفاهيم جنيف والعملية السياسية الانتقالية في سورية. مهما كان، فإن مصير الأسد عاد إلى المعادلة، فيما بالأمس القريب كان هناك من اعتبره أمراً مفروغاً منه.
فكل الاجتهادات في شأن السياسات الأميركية في عهد دونالد ترامب باتت اليوم رهن الواقعية السياسية والاعتبارات الجغرافية– السياسية والمصالح الأميركية، وليس إدارة هذا الرئيس أو ذاك. بالطبع، لكل رئيس أميركي القدرة على التأثير في مسار العالم وفي المسيرة الأميركية الداخلية، لكن الولايات المتحدة تبقى دولة عظمى لا يتحكم بها فرد واحد مهما استولى على انتباه العالم ومهما كان فريداً من نوعه، فهذه دولة المؤسسات والديموقراطية والمحاسبة بشفافية عنيفة، إذا اقتضى الأمر. شهر العسل لا يدوم طويلاً مع أي رئيس جديد، ودونالد ترامب المثير للعالم يبدأ هذا الأسبوع مشواراً صعباً مع أميركا التي تتوقع من رئيسها أن يكون واعياً وحكيماً، وإلا فإنه ليس فوق المحاسبة.
*نقلاً عن "الحيـــاة"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة