«دبلوماسية البوصة».. كيف تجلب مفاوضات متدرجة السلام لأوكرانيا؟
يتزايد حديث السلام في أوكرانيا، وكأنه ملف واحد يمكن أن يطرح على طاولة تفاوض في لحظة ما، وينتهي باتفاق شامل ينهي النزاع.
لكن يبدو أن الواقع أكثر تعقيدا من التصورات، وسنوات الحرب شبكت خيوط الأزمة بشكل لا يمكن تجاوزه في لحظة زمنية ما، إلى حد بات معه الطريق الوحيد للمضي قدمًا هو سلسلة من الاتفاقات التدريجية صغيرة النطاق مع روسيا.
وبالعودة إلى عام 2014، كان الوضع معقدا ويشبه ما يحدث الآن، إذ كانت القوات الروسية تحقق مكاسب مطردة في شرق أوكرانيا بينما بدا الأوكرانيون غير قادرين على الصمود في خط المواجهة.
وبعد أن عانت أوكرانيا من سلسلة من الانتكاسات في ذلك الوقت، بدأ الدبلوماسيون من أوكرانيا وروسيا وفرنسا وألمانيا العمل في مينسك عاصمة بيلاروسيا، ومن هنا جاءت دبلوماسية ”مينسك“ التي مهدت الطريق إلى الدفعة الثانية من الحرب التي بدأت في فبراير/شباط 2022.
لذلك، يجب أن تطارد مينسك صانعي السياسة الأمريكية. وينبغي دراسة مثالها المحبط بعناية قبل بدء موسم جديد من المفاوضات. إذ عكست مينسك افتقار فرنسا وألمانيا إلى النفوذ، وفق مجلة فورين بوليسي الأمريكية.
ولم تكن المناقشات التي جرت في وقت متأخر من الليل في العاصمة البيلاروسية في 2014، أكثر من مجرد التقاط صور تذكارية في النهاية، لذلك، لا يمكن لأوكرانيا ومؤيديها أن يكرروا هذه التجربة.
دروس مينسك
وعلى الدول الداعمة أن تستوعب الدروس التالية: أن عدم وجود صفقة أفضل من صفقة سيئة؛ وأنه يجب على المرء أن يعرف طبيعة وحدود نفوذه؛ وأنه ليس من الضروري أن تكون كل مفاوضات رفيعة المستوى ومدفوعة إعلامياً.
بل يجب على الدبلوماسية اليوم أن تجمع بين حقيقتين منفصلتين. الأولى هي أن روسيا لا تزال مستقرة سياسياً ومثابرة عسكرياً، على الرغم من بوادر الصعوبات الاقتصادية والإرهاق العسكري. والثانية هي أن أوكرانيا يجب ألا تستسلم ولن تستسلم، على حد قول فورين بوليسي.
وبوضع هاتين الحقيقتين جنبًا إلى جنب، تصبح أوكرانيا والدول العالمية أمام طريق ذي اتجاه واحد: دبلوماسية مرحلية، تعطي الأولوية لتخفيف التصعيد، أي دبلوماسية "البوصة" بدلا من الاتفاقات الكبرى الهشة.
وعلى عكس ولايته الأولى، يمتلك دونالد ترامب رأس المال السياسي للتفاوض مباشرة مع فلاديمير بوتين في الوقت الحالي.
وبين عامي 2016 و2020، كان الجمهوريون في الكونغرس على استعداد للتصويت لصالح فرض عقوبات على روسيا حتى لو أغضب ذلك الرئيس. لكن في عام 2025، يعمل الحزب الجمهوري جنبًا إلى جنب في السياسة الخارجية، متسقا مع خطط الرئيس.
تحديات كبيرة
ويواجه ترامب مجموعة من التحديات. أحدها أن أوكرانيا لن تستجيب بالضرورة لأوامره؛ فالولايات المتحدة داعم عسكري رئيسي لأوكرانيا، ولكن أوكرانيا لديها جيشها الخاص وصناعتها الدفاعية الخاصة بها، بالإضافة إلى مساعدة دول (مثل بولندا) التي ترغب بشدة في منع انتصار روسيا.
الأمر الآخر هو أن الصين ستلعب دورًا ما في إنهاء الحرب، لأسباب ليس أقلها أن بكين ستكون مستفيدة في إعادة إعمار أوكرانيا بعد الحرب.
وعلى الرغم من أن ترامب قد طرح فكرة التعاون الدبلوماسي مع الصين بشأن أوكرانيا، فإن ذلك سيكون صعباً للغاية من الناحية العملية في سياق العلاقات بين البلدين
وستكون أكبر عقبة أمام نجاح المفاوضات هي روسيا نفسها. فقد نجح بوتين في إطالة أمد الحرب لفترة أطول مما توقعه الكثيرون. في أوائل عام 2022، حذر مستشاروه من الذعر المالي والتضخم ونقص السلع الأساسية التي ستجلبها الحرب.
بيد أن هذه التنبؤات لم تتحقق بالكامل، على الرغم من أن بعضها بدأ الآن في الظهور.
وأقنع بقاء روسيا على قدميها بوتين بأن الحرب كانت منطقية. وقد جعل الكرملين الحرب أولويته القصوى، وضخ الأموال في الصناعات العسكرية والدفاعية.
ورغم خسارة جزء من أراضيها لصالح أوكرانيا في أغسطس/آب 2024، فإن روسيا تحقق مكاسب إقليمية في أوكرانيا على مدار العام الماضي.
لذلك، ومن الناحية السياسية، وبعيداً عن كونه في موقف دفاعي، سيدخل بوتين طاولة المفاوضات بمطالب عالية، فهو ليس محاصراً على الإطلاق، وفق فورين بوليسي
خطوة خطوة
ووفق فورين بوليسي، لا يزال من الممكن تحقيق مكاسب وإنجازات في هذه الحرب التي تبدو بلا نهاية، حيث يمكن لإدارة ترامب أن تتيح سلسلة من التفاعلات بين أوكرانيا وروسيا، بحيث تقدم روسيا تنازلات: هجمات أقل على الشبكة الكهربائية في أوكرانيا، وهجمات أقل على المدنيين، مقابل شيء ما في المقابل.
ولدى أوكرانيا تنازلات يمكن أن تقدمها، بالنظر إلى أنها لديها القدرة على ضرب عمق الأراضي الروسية وهي تسيطر على أراض روسية منذ ما يقرب من نصف عام.
وفي حال بدأت روسيا في تقليص الحرب، يمكن للولايات المتحدة أن تفكر في التراجع عن بعض عقوباتها، وفق فورين بوليسي التي أضافت: "لن يتم التفاوض على أي من ذلك أو الاتفاق عليه علنًا".
ومن شأن الاتفاقات الأسبوعية والشهرية للحد من الحرب أن تقلل من المعاناة الإنسانية في أوكرانيا وتعيد الأمور إلى طبيعتها. كما أنها ستسحب العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا من حافة الهاوية.
في هذا السياق، يمكن لدبلوماسية خفية من وراء الكواليس بشأن الحرب أن تقدم شيئًا آخر لفريق ترامب: القدرة على تجزئة العلاقات مع روسيا بوتين؛ أي يمكن للولايات المتحدة وروسيا أن يتفقا على الاختلاف بشأن أوكرانيا، مع وضع قواعد معينة للاشتباك، وفي الوقت نفسه يمكنهما إجراء مفاوضات حول الحد من التسلح والاستقرار الاستراتيجي.
وعلى حد قول المجلة، فإن اتباع نهج دبلوماسي لا يتنازل عن الكثير، سيخدم الهدف طويل الأجل المتمثل في تأمين السيادة الأوكرانية، إذ يجب أن يكون للمفاوضات هدف أكثر تواضعًا في مراحلها الأولى، يتمثل في إبعاد الحرب عن حدتها، وإبطاء وتيرة الحرب، وفي الوقت نفسه تفادي السيناريوهات الأسوأ.
aXA6IDMuMTQ3LjYzLjE2MiA= جزيرة ام اند امز