كل عام، تتنبأ الصحافة العربية بالفائز بجائزة نوبل للآداب، وتكاد لا تذكر الفائزين بجوائز الطب والكيمياء والفيزياء، كأننا تخلّينا عن العلوم ولا أثر لها بحياتنا المعاصرة.
هذه التنبؤات تقتصر على ذكر المشاهير من الأدباء والروائيين، ولم تُشِر لا من قريب ولا من بعيد إلى الاختيار الصحيح لهذا الفائز.
وهذا العام، فاجأت الأكاديمية السويدية باختيارها الكاتب التنزاني عبد الرزاق جرنة لتتوّجه بوسامها الرفيع، وهو أول كاتب أفريقي يفوز بالجائزة منذ "وول سوينكا" في عام 1986.
هناك مَنْ يذهب إلى أن العالم العربي لا يهتم بترجمة أعمال هذا الكاتب، الذي أنتج نحو عشر روايات، وهو شهير في بريطانيا، ليس برواياته فقط، بل بدراساته الأكاديمية المناهضة للكولونيالية، أو أن الصحافة الثقافية العربية لم تتناول أعماله أو تُجري معه حوارًا، ما عدا الحوار اليتيم، الذي أجراه معه الصديق القاص والصحافي العراقي سعيد فرحان، الذي يقيم في سويسرا.
لم تحصل هذه النتيجة لأول مرة، بل جرت مع عدد من الكتّاب والمؤلفين، لأن الإعلام أو الترجمة غير قادرتين على الإلمام بجميع هؤلاء الأدباء، الذين يفوزون بالجوائز العالمية، لسبب بسيط، وهو أنه لا توجد لدينا خطة استراتيجية للترجمة أو للتعريف بالأدباء الأجانب، بل تعتمد على الجهود الفردية.
وهناك مَنْ يقول: من المفترض أن واحدة من مهمات الترجمة اكتشاف الكتّاب المهمين وتقديمهم للقراء.
ما يحصل في حقيقة الأمر تركيز الترجمة على الكتّاب، الذين يحظون بقدر كبير من الاهتمام الإعلامي والثقافي حسب قانون السوق والمركزية الأوروبية، لكن الأكاديمية السويدية أثبتت أنها لا تخضع لضغوطات هذه اللوبيات وغيرها في منح جائزتها، فيما لا تزال الصحافة الثقافية العربية تصرُّ على تذكيرنا بالأدباء المكرسين والمرشحين الدائمين، الذين فقدوا بريقهم وألقهم.
يتناقض هذا الخيار -قليلاً- مع الصورة النمطية للحائز على الجائزة، والتي كان من السهل تحديدها منذ فترة طويلة: رجل، غربي، وغالبًا ما يكون أوروبيًا، إذ من بين 117 فائزًا في الأدب منذ بداية الجوائز فإن أكثر من 80٪ كانوا من الأوروبيين أو الأمريكيين الشماليين -وقد حصلت فرنسا وحدها على 13٪ من الجوائز- كما أن نصيب النساء أقل بكثير من نصيب الرجال، إذ يوجد 101 رجل على القائمة مقابل 16 امرأة.
على الرغم من أن المحلّفين في الأكاديمية السويدية يؤكدون دائما أن الجنسيات لا تهمّهم، وحتى بعد خروجها من الفضيحة، التي هزت الأكاديمية السويدية في عام 2018، والتي أدت إلى تأجيل نادر جدًا للجائزة، لكنها أشارت إلى تجديد نهجها لمزيد من التنوع بين الجنسين والقارات.
وصرح أندرس أولسون، رئيس لجنة نوبل، في خريف 2019 بأنه "كان لدينا منظور أوروبي حول الأدب في السابق، والآن ننظر حول العالم".
في العام الماضي، نالت الشاعرة الأمريكية لويز غلوك التكريم المرموق، حيث حصلت على جائزة "بوليتزر" للشعر في عام 1993، أو الميدالية الذهبية للشعر من الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب، لكنها غير معترف بها في عدد من البلدان الأوروبية، خاصة فرنسا.
مَنْ هو عبد الرزاق جرنة؟
التنزاني-البريطاني من أصل أفريقي عبد الرزاق جرنة جامع هذه العناصر في شخصيته، استطاع أن يقفز على جميع التوقعات المكرورة.. لعله من الجميل أن يفوز هكذا روائي وكاتب، من أصول أفريقية، تُركز أعماله على مناهضة الاستعمار وكشف الآثار المدمرة للكولونيالية على العالم الثالث والبشرية عامة.
وهو، رغم بقائه في الظل حتى لحظة حصوله على نوبل، أحد البارزين في متابعة هذا الإرث، وما يعانيه المهاجرون من عنت وإنكار وعنصرية في بلدان الغرب، ومن ظلم واضطهاد وفقر في بلدانهم.
أعماله تستكشف موروثات الإمبريالية على الأفراد والمجتمع، وكما قالت الأكاديمية السويدية إن الجائزة تقديرٌ لـ"اختراقه آثار الاستعمار ومصير اللاجئين بين الثقافات والقارات".
ووصفه أندرس أولسون، رئيس لجنة نوبل للأدب، بأنه "أحد أبرز الكتّاب في العالم في فترة ما بعد الاستعمار"، وأضاف أن شخصيات "عبد الرزاق" "تجد نفسها في الفجوة بين الثقافات، بين الحياة، التي تركتها وراءها والحياة الآتية، وتواجه العنصرية والتحيز، ولكنها تجبر نفسها أيضًا على إسكات الحقيقة أو إعادة اختراع سيرة ذاتية لتجنب التعارض مع الواقع".
ينتمي الكاتب الفائز إلى المجموعة الإثنية "الضحية"، إذ أُجبر على ترك أسرته والفرار من بلاده، تنزانيا.. نشر عشر روايات وعددا من القصص القصيرة.. بدأ الكتابة في عمر 21 عامًا في المنفى الإنجليزي، رغم أن لغته الأولى كانت اللغة السواحيلية، فإن الإنجليزية أصبحت أداته الأدبية.
كان صيته في الأدب باللغة السواحيلية معدومًا تقريبًا، ولا يمكن اعتبار كتاباته المبكرة أدبًا.
في جميع أعماله، يتجنب الكتابة عن الحنين إلى أفريقيا البكر ما قبل الاستعمار.. وتدور روايته الأولى "ذاكرة المغادرة"، 1987، حول انتفاضة فاشلة، وتُبقينا في القارة الأفريقية.
في العمل الثاني "طريق الحج"، 1988، يستكشف الواقع متعدد الأوجه للحياة في المنفى.
أما روايته الثالثة "دوتي"، 1990، تدور حول امرأة سوداء من أصول مهاجرة نشأت في ظروف قاسية في إنجلترا الخمسينيات المشحونة عنصريًا.
وتطورت روايته الرابعة، "الجنة"، 1994، التي حققت نجاحًا كبيرًا ككاتب، من رحلة بحثية إلى شرق أفريقيا، 1990.. وقد تم ترشيح هذه الرواية لجائزة "بوكر" في عام إصدارها.
هكذا عوّدتنا جائزة نوبل طوال تاريخها الطويل الذهاب بعيدًا عن الأنظار المركزة على كتّاب وأدباء معينين، وتتحفنا بالمفاجأة تلو الأخرى، فكل التوقعات تركز على المشاهير من الكتّاب كما أسلفنا، إلا أن جائزة نوبل للآداب، باختيارها الروائي التنزاني، تخطّت مركزيتها الغربية، ذات الطابع المطلق، فالتفتت إلى كاتبٍ من العالم الثالث يهتم بعالم المهاجرين.. يكتب بالإنجليزية، ويدّرس في الجامعات البريطانية منذ هجرته هاربًا من البطش، الذي تعرض له في ستينيات القرن الماضي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة